زوبعة عروبية في فنجان تونسي

“مهلا يا جماعة، خذوني على قد عقلي.. أنا لم أعد أفهم حديثكم.. اشرحوا لي معنى ‘تطبيع” أولا كي أقول لكم رأيي في برنامج الكاميرا الخفية الذي تتحدثون عنه”، عبارة قالها أحد البسطاء من التونسيين في مقهى الحي وسط جمع من الزبائن يناقشون بعد الإفطار ما أثاره برنامج الكاميرا الخفية الذي حمل اسم “شالوم”، وتبثه إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة.
ضحك كل من كان يدلي بدلوه في الموضوع، وصرخ أحدهم مازحا “احذروا يا جماعة.. ربما نكون ـ أنفسناـ الآن في فخ آخر من فخاخ الكاميرا الخفية”.
هذا المشهد يلخص أمورا كثيرة، تبدو عادية ومتكررة في الشارع التونسي هذه الأيام، وذلك على خلفية البرنامج الذي أثار الكثير من اللغط وصل حد الاحتدام، وكاد أن يقسم التونسيين إلى فريقين مثل كل مرة يتهم فيها التلفزيون بإيقاظ الفتنة النائمة.
برنامج “شالوم” مبني على فكرة استدراج شخصيات سياسية وفنية ورياضية ودينية إلى فيلاّ حيث يوهم معدو البرنامج الشخصيات التي يستضيفونها بأن هذا المكان هو المقر السري للسفارة الإسرائيلية، ويتم وضعهم في مواجهة رجل في هيئة حاخام يهودي بصحبة مرافقين له، وذلك من أجل استدراجهم لعقد صفقة تتمثّل بالقبول بـ”تطبيع العلاقات” مع الدولة العبرية مقابل أموال ووعود مغرية.
جدير بالذكر أن برامج الكاميرا الخفية في السنتين الماضيتين، بدأت تأخذ طابعا سياسيا صريحا من حيث الموضوع الذي يطرحه المعد “الجلاد”، والمقلب الذي يتعرض له الضيف “الضحية”، وما بين هذا وذاك من تشكيك في عفوية وتلقائية هذه الكاميرا التي قد لا تكون مخفية. هذا ناهيك عن أن فكرة “التطبيع ومقاومة التطبيع”، رائجة كثيرا في تونس هذه الأيام، وينشغل البرلمانيون من العروبيين على وجه التحديد بإثارتها “مما حدا بأحد البرلمانيين من أحد الأحزاب الليبرالية لوصف الحالة بـ’الموضة القديمة التي تحرر منها العراقيون والسوريون والمصريون والليبيون، فلبسها التونسيون وأعلنوها موضة جديدة بعد فوات الأوان'”.
برامج الكاميرا الخفية في السنتين الماضيتين، بدأت تأخذ طابعا سياسيا صريحا من حيث الموضوع الذي يطرحه المعد "الجلاد"، والمقلب الذي يتعرض له الضيف "الضحية"
برنامج “شالوم” يحيل إلى القول المأثور “الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها” ويؤكد فكرة مفادها أنه وكيفما كنا “يتلفز” علينا، حسب تعبير الناقد الفني الأسعد بن حسين، والذي أضاف أن هذه الضجة حول برنامج كاميرا خفية، لا يمكن أن تثار أصلا في المجتمعات المتقدمة التي عرفت وتعرف الكاميرا كلعبة مسلية تستنطق إنسانية الإنسان ولا تثير فيه الغرائز العدائية.
أما الأبعد من ذلك كله هو أن هذا البرنامج لا يبتعد كثيرا عما كان قد وقع في الجارة الغربية لتونس رمضان العام الماضي، عندما استضاف برنامج للكاميرا الخفية في إحدى القنوات الجزائرية الخاصة الروائي رشيد بوجدرة، لإجراء مقابلة صحافية، وبعدها قام صحافيان بتقمص دور رجلي شرطة، اقتحما الأستوديو وطلبا وثائق هوية الكاتب ووجها له عدّة تهم منها التخابر مع دول أجنبية، ووصفاه بالإلحاد وأجبراه على النطق بالشهادتين، وقاما بالسخرية منه.
إنها قمة الإرهاب الفكري أن يخرج أناس محسوبون على الإعلام قناعات شخصيات على الملأ دون رغبة أو إذن منها ثم يضعونها في ميزان السلوكيات والقيم الاجتماعية السائدة بغية محاكمتها أو التشهير بها، وفي ذلك اختراق للخصوصيات الفكرية واستباحة لأعراض الناس، يعاقب عليها القانون بلا شك.
ولقد تسببت برامج ما يعرف بالكاميرا الخفية في بلاد مختلفة في حالات اجتماعية كثيرة وصفت بالمأساوية، خصوصا أنها لا تأخذ بموافقة الضحية من عدمها. أما إذا كانت هناك توقيعات وموافقات بالعرض، فالأمر أكثر تعقيدا في مثل هذه الحالات، ولعل أبسط التهم الموجهة في ذلك هو التآمر بين الطرفين لغاية ربحية مخفية غير ظاهرة كالدعاية السياسية مثلا، وهو ما يعرض كل الأطراف إلى المسؤولية أمام العدالة.
ولا يختلف اثنان في أن السم عادة ما يدس في الدسم، وفي أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وفي أن الإعلام كثيرا ما يقع ركوبه واستهدافه عندما يكون حرا. وهذا ما يحدث في تونس ويبدو جليا من خلال “مواسم” ينشغل بها الشارع التونسي في كل مرة ضمن أجندات لم تعد خافية على أحد.
الذين يحشرون جملا وشعارات منتفخة (مثل الوطنية والعروبة) في مواجهة هذا البرنامج الذي وصف بضعفه الفني والتقني أولا، وقبل ضحالة فكرته ثانيا، هم إما يضحكون على أنفسهم وعلى الآخرين وإما يزايدون بمسألة يجب أن تناقش بروية وعمق قبل أن يتاجر بها إعلاميا وتدخل البازار السياسي.
“شالوم” بالون اختبار مفضوح، حلوى رخيصة يتسلى بها ذوو عقول ربات الحجال ومنحدر نحو لزوم ما لا يلزم.