زوايا طلال الجنيبي الباريسية بين الشعر والسبر

الشاعر طلال الجنيبي استطاع في كتابه "زوايا باريسية" أن يسبر أغوار باريس ويوازن بين متعه الحسية ومتعه الفكرية أو العقلية.
السبت 2019/05/04
باريس تظل بالنسبة للجنيبي هي الأثيرة دائما

من يزور باريس، أو يعيش فيها لبضعة أيام أو شهور أو سنين، لا يملك إلا أن يمسك قلمه ويعبر عن إحساسه بتلك المدينة الاستثنائية التي يطلق عليها مدينة الأضواء والفنون والعطور، وأتذكر أنني زرت باريس لمدة أسبوع فكتبت عنها كتابا بعنوان “رأيت باريس” صدر عام 2005 رصدت فيه مشاعري بتلك المدينة التي قال عنها الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الجامع الأزهر (1885 – 1947) “باريس عاصمة الدنيا، ولو كانت للآخرة عاصمة، لكانت باريس”.

وقد مكث الشاعر الإماراتي الدكتور طلال الجنيبي أربع سنوات في باريس مرافقا لعمته المريضة بالسرطان، والتي انتقلت إلى رحمة الله تعالى لاحقا. فتفاعل مع باريس شعرا ونثرا أو سبرا، كما يقول، حيث يجتمع في عاصمة النور والضوء ما لا يجتمع في غيرها من أطياف وأهواء وأفكار وألوان تتنقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال بنكهة لا تشابه غيرها، فضلا عن طرازات معمارية مميزة ذات عراقة وهوية ترتبط بالأذهان بملامح المدينة الحالمة.

لقد زار الجنيبي الكثير من المدن والأماكن في أزمنة مختلفة، وأنا شخصيا التقيت به لأول مرة في مدينة فاس المغربية في أبريل عام 2016، حيث تشاركنا في مهرجان دارة الشعر المغربي الذي تنظمه الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة، ثم تكررت اللقاءات في فاس وأبوظبي، ولكن تظل باريس بالنسبة للجنيبي هي الأثيرة دائما وعنها يقول “لأن المكان والزمان يسكنان الإنسان، فكيف لو سكن المكان والزمان روح شاعر وكانت الساكنة باريس؟”.

لقد كتب الجنيبي العديد من القصائد عن باريس وفي باريس وأهدى قصائده إلى الشخصيات التي التقاها هناك، لكنه لم يسمها وإنما أعطاها حروفا أولى من أسمائها، وقسم كتابه “زوايا باريسية” إلى 24 زاوية (بعدد ساعات اليوم)، وترك الزاوية الأخيرة فارغة ليكتبها أو يملأها القارئ، فكانت بعنوان “زاويتك أنت (أيها القارئ)” ليكتب القارئ ما تعنيه باريس له، ويراهن الجنيبي على أن الكتاب، بهذه الطريقة، ستختلف كل نسخة منه عن غيرها، بسبب اختلاف هذه الزاوية الأخيرة، وهو بذلك يلجأ إلى وسيلة تفاعل

باريس مدينة استثنائية
باريس مدينة استثنائية

انقسمت زوايا الجنيبي في هذا الكتاب بين الشعر والنثر أو السبر (سبر أغوار باريس) بطريقة شبه عادلة: إحدى عشرة زاوية شعرية، تقابلها اثنتا عشرة زاوية نثرية (أو سبرية) والزاوية الأخيرة تركها للقارئ كما رأينا من قبل.

هذا التفاعل الشعري مع باريس ينطلق من مبدأ “اللذة” والاستمتاع بالحياة الباريسية المنطلقة التي لا يحدها حد. ولعل هذا المبدأ يتضح أكثر في قسم “السبر” حيث يدعو الشاعر إلى “عدم التمادي في خوض غمار متع الحياة بشكل مكثف حتى لا نفقد القدرة على التلذذ بها عندما نحتاج إليها حقا” ولعل الشاعر يشير، بطريقته، إلى آراء سيغموند فرويد في كتابه “ما فوق مبدأ اللذة” حيث يرى فرويد أن “في النفس الإنسانية نزعة قوية وميلا غالبا إلى التزام مبدأ اللذة، وأن هناك من القوى والظروف ما يعارض تلك النزعة، معارضة تؤدي إلى أن الأمور لا تنتهي في كافة الأحوال إلى نهاية توائم مبدأ اللذة”، وعلى ذلك ينصح الجنيبي بالأخذ بمبدأ الاعتدال حيث “الاعتدال في كل الأمور أمر مطلوب في رحلة الحياة بكافة جوانبها عامة، وبالذات في ما يتعلق بالاعتدال في التعاطي مع الملذات بشكل خاص، فالتمادي في تناول المتع يأخذ منك، والاقتصاد في التداول معها يضيف إليك”.

وقد يكون الجنيبي أيضا متأثرا بالفلسفة الأبيقورية، حيث يقول الفيلسوف اليوناني أبيقور عن اللذة “أما أن اللذة خير فذلك أمر بديهي يشعر به الإنسان كما يشعر أن النار حارة وأن الثلج أبيض. إن اللذة هي بداية الحياة السعيدة وغايتها. بالنسبة إلي لا يمكنني أن أتصور ماهو خير إذا استبعدنا ملذات الطٌعام والحب وكل ما يمتع العين والأذن. إننا لا نبحث عن أي لذة… ولا ينبغي أن نتجنب كل ألم. اللذة التي نقصدها هي التي تتميز بانعدام الألم في الجسد والاضطراب في الجسد”.

ولكن مَن لا يغترف من اللذة في باريس المهيأة لكل أنواع المتع بالطريقة التي تحدث عنها اللورد هنري للفتى دوريان غراي في رائعة أوسكار وايلد “صورة الفنان في شبابه” أو “صورة دوريان غراي”؟ ولكن ملذات هنري وغراي كانت معظمها في لندن، أما ملذات الجنيبي فقد كانت في باريس الأكثر حرية وانفتاحا ولذة لطالبي المتعة، لذا كان لا بد من وضع ضوابط للاستمتاع، ومن هذه الضوابط التي وضعها الجنيبي قوله “المتعة كأس، املأه كما تشاء، وليس بما تشاء، ولكن إياك أن يفيض منه عليك، فيفسد ما لديك”، واضعا بذلك ضوابط قيمية وأخلاقية ومجتمعية. يقول “يمكننا ملء الكأس إلى أقصى ما يتسع، ولكن متى ما تجاوز حدود السعة، ولو بقطرة، فإن المضمون سينسكب على صاحبه، ويفسد عليه ما لديه، فالحذر الحذر”.

وحتى لا يتحول التعاطي مع المتع والاندفاع نحوها إلى عتمة يكتب طلال الجنيبي “ما بين المتعة والعتمة، أحيانا، مجرد اختلاف في ترتيب الحروف”، ويفسر ذلك بقوله “إن خوض غمار مساحات المتع العريضة في الحياة من غير نور وهدى وتلمس لمسار ومراقبة الذات، قد يهوي بصاحبه إلى منزلق خطير في عوالم الظلام، حيث التخبط في عدم تمييز خبيث اللذة من طيبها”، مؤكدا وجود متع العقل التي تتجاوز حدود مناطق الحواس الخمس المجردة، مشيرا إلى أن الهدف الأسمى للإنسان يتمثل في تحقيق التوازن.

إن طلال الجنيبي حاول، خلال إقامته في باريس، أن يوازن بين متعه الحسية ومتعه الفكرية أو العقلية، بحيث لا تطغى متعة على أخرى، فيحدث ما لا تحمد عقباه وحذرنا منه، مثلما حاول في كتاب “زوايا باريسية” أن يوازن بين الشعر والنثر (أو السبر) وأعتقد أنه نجح في ذلك، ويشير إلى ذلك رامزا بالعطر الباريسي في قوله “إن أطيب روائح الجسد هي تلك الرائحة التي يتوازن فيها عبق الجسد النقي مع العطر بتناوب لا غلبة فيه لأحدهما على الآخر”.

14