زمن عبدالكريم العريض

بغض النظر عن اعتزازه بالجماعة الفنية التي أسسها فإنني أشعر أنه صنع زمنا خاصا به. هو زمن عبدالكريم العريض.
السبت 2025/04/05
واحد من رواد الفن في البحرين

قبل أكثر من ثلاثين سنة تعرفت في البحرين على الرسام ناصر اليوسف وكان قد فقد البصر. قيل لي إنه لا يزال يرسم فذهبت إليه.

كان قد اهتدى قبل أن يفقد البصر إلى فكرة أن الرسم فعل خيال تساعد العين على تأثيثه بالمفردات الواقعية. حين تتمكن يد الرسام من رسم تلك المفردات في غيابها فذلك يعني أن بإمكان الرسام أن يرسم من غير أن يفتح عينيه.

كانت تلك بداية رائعة لعلاقتي بالرسم الحديث في البحرين التي لا تزل مستمرة حتى اليوم. ذلك بلد وهب المشهد الفني العربي رسامات ورسامين مهمين. أذكر منهم راشد آل خليفة، نبيلة الخير، عبدالرحيم شريف، هلا آل خليفة، عباس يوسف، لبنى الأمين، عبدالجبار الغضبان، إبراهيم بوسعد، جعفر العريبي وأخريات وآخرين.

كتبت عنهم باعتزاز عاطفي استثنائي. لا لأنني حظيت بحبهم الكريم فحسب، بل لأنني اكتشفت أيضا في تجاربهم الفنية مرجعا مهما لحداثة الرسم في العالم العربي.

يومها صرت أبحث عن جذور المحاولة الفنية في البحرين، فاهتديت إلى عبدالكريم العريض كونه واحدا من رواد الرسم الحديث في ذلك البلد المحب، إضافة إلى أنه قد اهتدى في وقت مبكر من حياته إلى فكرة عرض أعماله على الجمهور في قاعة فنية تقع في السوق. بذلك يكون العريض هو من اخترع جمهورا للفن في البحرين.

كان العريض فنانا استثنائيا يفكر في فنه كما يفكر بجمهوره. كان مبشرا بنعمة الفن وقدرته على التغيير. حين كتبت عنه لم أكن أتخيل أن الرجل الذي صار جزءا من التاريخ لا يزال حيّا. فيما بعد وفي واحدة من زياراتي إلى البحرين تلقيت مكالمة، وإذا بصوت عبدالكريم العريض يفاجئني بالتحية، وهو يقول “أنا عبدالكريم العريض.” قلت له بتلقائية، “إذاً نحن لا نزال نعيش زمن عبدالكريم العريض،” ضحك الرجل طويلا، وقال، “لقد توقعت من خلال مقالك أنك لا تعرف أنني لا أزال حيّا. كل جملك كانت تبدأ بالفعل الماضي. لا يهم. أرجو أن أراك حين تسمح صحتي،” يومها قلت لصديقي عباس يوسف “أنتم محظوظون. لا يزال أبوكم الروحي حيا”.

كنتُ ولا أزال معجبا بالبحرين. كل شيء فيها يعجبني. حين أجلس في مقهى أو مطعم حاجي في السوق العتيقة لا أشعر كما لو أنني هبطت من فوق وأنا المقيم في فندق ريتز أو  الخليج أو الفور سيزون. حقيقة البحرين واحدة.

أحلى ما في البحرين أنها تنتسب إلى وحدة تاريخها المثير بطبقاته التي يشف بعضها عن البعض الآخر. لم تكن سعادتي توصف حين اكتشفت أن العريض لا يزال حيا. اليوم مات الرجل (91 عاما) الذي عرف جيدا كيف يمحو أي شعور باليتم بغيابه.

وبغض النظر عن اعتزازه بالجماعة الفنية التي أسسها فإنني أشعر أنه صنع زمنا خاصا به. هو زمن عبدالكريم العريض.

18