زمن بن عيسى

منذ أيام أكمل موسم أصيلة الثقافي في المغرب عامه الأربعين، كان محمد بن عيسى ولا يزال هو مايسترو ذلك الموسم، مخترع الفكرة وصاحب المبادرة وراعي المشروع جمع من حوله عبر عقود من الزمن خبرات العالم العربي كله، لكي يرتقي بمشروعه إلى أهداف حضارية، لم يكن أحد يتخيّل أن مدينة صغيرة وهامشيّة مثل أصيلة يمكن أن تنجح في الوصول إليها.
غير أن الحلم سرعان ما تحوّل إلى واقع، فصارت دروب المدينة الضيقة البيضاء تعج بأصوات الحالمين، الأحياء منهم والأموات على حد سواء، كل صوت امتزج بهواء أصيلة لا يزال إيقاعه مسموعا في تلك الأزقة.
“في تلك الغرفة نام سنغور”، يقول بن عيسى، وهو يعرف أنه يتحدث عن الشعر، كانت صور بلند الحيدري معلقة على الجدران، نظرت إلى الرصيف فرأيت خطوات الشاعر العراقي لا تزال شاخصة، كما لو أنه غادرني لتوه.
صنع بن عيسى ممرات خفية تقود إلى الحقيقة، هناك مشى الفنانون والشعراء والفلاسفة والموسيقيون كالأرواح الطاهرة الموعودة بالذهاب إلى الجنة.
لا أحد يخطئ الطريق إلى بيت بن عيسى، لا تزال أجمل الجمل تحلق تحت سقفه، بشر نطقوا بأحلامهم ثم صاروا أحلاما، يسمع المرء وهو يتجوّل في أسواق المدينة صفق أجنحتهم التي تطرز الأفق بغيومها البيضاء.
لم يشخ أحد منهم، بل أنهم استعادوا طفولتهم وهم ينظرون بشوق إلى عصا المايسترو التي لا تكف عن التقاط الأنغام من عالم غير مرئي، فالرجل الذي تراكمت في عقله خبرات أربعين سنة من المحاولة لا يزال يملك من الحلم قدرا يمكنه أن يشيد عوالم خيالية تفتح أبواب فراديس جديدة أمام مدينته التي ولد فيها، وصار يعبر عن حبه لها عن طريق جلب العالم إليها.
أصيلة التي يحج إليها مئات الرسامين والشعراء والفلاسفة ورجال الفكر كل عام، تتحوّل بهم ومن خلالهم إلى نوع من المدينة الفاضلة التي تتماهى مع سعة زمن عاشقها بن عيسى.