زمن البيانات الشعرية
المتأمل في المشهد الشعري العالمي والعربي لا بد أن يلاحظ غياب ظواهر أدبية، حكمت هذا المشهد طوال عقود طويلة من تاريخ التجربة الشعرية، أهمها غياب ظاهرة البيانات الشعرية التي كانت تعلن عن ولادة مدرسة شعرية، تؤسس لقيم جمالية وفكرية جديدة، كانت تعكس تحولا في الوعي والحساسية الشعرية عند رواد هذه المدرسة ومنظريها.
التكعيبية والرمزية والدادائية وقبلهم الرومانسية شكلت محطات بالغة الأهمية في تاريخ الحركة الشعرية في العالم، ساهمت إلى حد بعيد في تطور حركة الشعر العالمي وتنوع تجاربه ولغاته، بصورة عبرت فيها عن قوة المخيلة الشعرية الخلاقة، وقدرتها على تجاوز المألوف والناجز بصورة دائمة ومستمرة.
لم تكن هذه البيانات التي صاغت رؤى الشعر الجديدة، وأسست لقيم جمالية مفارقة مجرد شهادة ميلاد لمرحلة شعرية جديدة، بل كانت تعبيرا عن حيوية التجربة الشعرية الكبيرة، وقدرتها على تكثيف أسئلة الذات والعالم في لحظة وجودية فارقة، كان الشاعر فيها يحاول أن ينتصر بالجمال على شرطه الوجودي ومآسي عصره.
لكن تلك المرحلة التي عرفت ولادة هذه الحركات لم تعمّر طويلا، فقد شهد النصف الثاني من هذا القرن غيابا واضحا لظهور تلك الحركات الشعرية، نجم عنه اختفاء ظاهرة البيانات الشعرية.
هذا الغياب ليس حدثا عاديا، فقد ترافق مع ظاهرة أخرى، هي تراجع حضور الشعر في المشهد الثقافي العالمي، قابله صعود واضح للرواية في هذا المشهد. لذلك فإن قراءة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن سياقها الثقافي العام، لأنها جاءت في إطار التحولات التي طرأت على المزاج الثقافي العام، وعلى إيغال الشعر في مغامرة التجريد والبحث عن الغريب.
الشعرية العربية الحديثة التي كانت في الغالب صدى لتلك الحركات الشعرية في العالم، لم يكن يصلها صدى هذه التحولات الشعرية إلا متأخرا.
كاتب من سوريا