زمنٌ موصوفٌ بالجمال

تنشط على وسائل التواصل بعض مراكز التغذية التي تعرض صوراً قديمة لحواضر عربية تبدو فيها الشوارع أنيقة ونظيفة، وفي إيضاحات الصور، تُذكر سنة التقاط كل صورة، مع تعيين لمكانها. كذلك تُعرض صور أذناب مستعمرين من رجالات عهود مضت، مع إشارات عن الأبهة ورصانة الأدوار، وفي تدبير لحث الأجيال على التأسي على أولئك الراحلين. وعلى الرغم من كون تلك المناظر وصور الشخصيات مستعادة من التاريخ، غير أن التاريخ تحديداً هو المُغيب عن سابق تقصّد، وحقائقه هي المستهدفة بالطمس.
ومع الوقت يزداد عدد البلدان التي تُستعاد أرشيفات صورها في هذا السياق الانتقائي والمختزل، ودخلت أخيراً بغداد على الخط.
عند إمعان النظر في الصور المنشورة تطرأ على الأذهان الكثير من العناصر الغائبة عن هذه العروض، وأولها أن مناظر العمائر والشوارع تقتصر على أماكن تحاكي مراكز الحواضر التي جاء منها المستعمرون، وقد استحدثوها لأنفسهم ولحياة الأجانب الذين عاشوا في محاذاتهم، من جاليات وشركات ووكالات تجارية وصناعات جديدة، في إطار عملية النهب والاستحواذ، بينما الغالبية الساحقة من الناس، في المدن الداخلية وأريافها، يعيشون حياة رثة، محرومة من الصحة والتعليم والسكن اللائق. فوراء الصور الجميلة يكمن ما هو مسكوت عنه، وهو القبضة الاستعمارية من الطراز الوحشي القديم الذي يحرص أولاً على سلب المواطن ابن البلد كرامته وإنسانيته. فما الذي يراد من صورة شارع فؤاد في العام 1924 على سبيل المثال؟ فعلى الرغم من ضآلة الفارق بين منظر الشارع في تلك السنة ومنظره اليوم؛ فمن الطبيعي أن يكون الشارع مكتظاً الآن، بحكم الزيادة السكانية، إذ يدخل إلى القاهرة ويخرج منها يومياً نحو خمسة ملايين، بخلاف القاطنين فيها، وهم نحو 16 مليونا. لكن السؤال: هل يُراد من صورة العام 1924 طمس الذي وراء صورة الشارع نفسه في العام 1965 أو حتى العام 2021؟ ففي العامين الأخيرين جرت وتجري عمليات تنمية شاملة لكل البلاد، وإن اختلفت التفاصيل. وبين العامين 1965 واليوم بُنيت عمائر ومساجد أكثر جمالاً وروعة، وملحقة بها قاعات مناسبات، وتتفوق التصميمات جمالاً على تلك العمائر التي بناها الطليان والفرنسيون في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بمنهجية الفن المعماري القوطي التي تصلح للبلاد الباردة. ولينظر مروجو الصور إلى برج القاهرة نفسه الذي أنجر في العام 1961 برسم مهندس مصري يُدعى نعوم شبيب وليس جورج هوسمان على شكل زهرة اللوتس المصرية. ولينظروا إلى إبداع العمارة في الكثير من المباني والمساجد. فمسجد الشرطة وحده في حي الدَرّاسة يُعد من أجمل وأرقى ما يمكن أن تراه العـين من فن العمارة الإسلامية، وقد بُني على غراره مسجدان آخران في مدينة الشيخ زايد وحي التجمع الخامس. ذلك بخلاف تصميمات الأبراج والمطارات وشبكات الطرق، التي لا مجال بعدها لتضليل الأجيال لكي يُفتتنوا بالحقب الاستعمارية. وأقرب مثال على التضليل الواقع المسكوت عنه في منظر شارع فؤاد في العام 1924. ففي تلك السنة كانت مصر حزينة، من أقصاها إلى أقصاها، لأن محبوبها سعد زغلول الذي لم يكمل العشرة أشهر كرئيس للوزراء بعد انتخابات يناير من تلك السنة أعقبت إعلان الاستقلال الصوري؛ اضطر للترجل تحت وقع الطغيان الاستعماري، لمجرد أن فتى مصرياً أطلق النار على “لي ستوك” قائد الجش البريطاني في السودان فأرداه، ليعلن البريطانيون عن سلسلة عقوبات، منها الاستيلاء على جمرك الإسكندرية وعلى مياه خزان أسوان القديم!