زعماء الجزائر عاجزون عن التفكير الاقتصادي الإستراتيجي

منذ أن تولت السلطة قبل عامين، سعت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني لتعزيز الروابط مع دول جنوب البحر المتوسط مثل الجزائر ومصر ومع الشركات الخليجية، وشجعتها على تعزيز الاستثمار في المجالات ذات الأهمية الإستراتيجية مثل الطاقة. وعملت على توسيع الاتفاق الذي توصل إليه سلفها ماريو دراغي والقادة الجزائريون وتعميقه إلى الحد الذي عوّضت فيه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا روسيا لتصبح مصدر الغاز الطبيعي الرئيسي لإيطاليا. وكان إنشاء صندوق “صنع في إيطاليا” في مايو برأس مال بلغ 700 مليون يورو آخر تطور في سياسة ميلوني.
ويكمن الهدف العام في تقليل اعتماد الصناعة الإيطالية على المصدرين الخارجيين. وكانت المملكة العربية السعودية أول دولة أبدت اهتمامها بالاستثمار في هذا الصندوق.
ويُطرح السؤال حول ما إذا كانت الجزائر ستتبع السعوديين. وتعود روابط شركات النفط والغاز الإيطالية إلى استقلال البلد الأفريقي في 1962. ولعبت الشركات الإيطالية، وفي مقدمتها شركة الطاقة العملاقة إيني، دورا رئيسيا في تأسيس البنية التحتية للنفط والغاز في الجزائر. وتعززت الثقة السياسية بين البلدين من خلال الدور الذي لعبه مؤسس إيني إنريكو ماتي في تقديم المشورة للحكومة المؤقتة لجمهورية الجزائر في المفاوضات التي أدت إلى الاستقلال قبل 61 عاما.
◙ الجزائر أضاعت فرصة فريدة لإنشاء صندوق ثروة بعد الأزمة المالية 2008 – 2009 عندما كان بإمكانها الاستثمار في الشركات الغربية التي كانت تعمل بها
وأكدت الاتفاقيات الأخيرة دور إيني بصفتها شريكة رئيسية لشركة النفط والغاز الجزائرية المملوكة للدولة سوناطراك التي توظف 100 ألف شخص. وتنظر الشركتان في إمكانية تصدير الهيدروجين من شمال أفريقيا إلى إيطاليا عبر خط الأنابيب عبر المتوسط (ترانسميد) الذي نقل الغاز الجزائري من الجزائر إلى البر الرئيسي الإيطالي عبر تونس وصقلية على مدى الأربعين سنة الماضية. وشيّدت شركة سايبم الإيطالية (سنامبروجيتي) خط الأنابيب تحت الماء، وهو الأول من نوعه في العالم.
وأصبحت إيطاليا مركز الغاز الجديد في البحر المتوسط منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وتنقل ثلاثة خطوط أنابيب من أذربيجان وليبيا والجزائر الغاز إلى شواطئها الجنوبية. وسيسمح التخزين العائم بجلب المزيد من الغاز من إسرائيل ومصر. وأعربت إيطاليا على الجبهة الجيوسياسية، خلال السنوات القليلة الماضية، عن اهتمامها برؤية الجزائر تساعد في استقرار مالي ودول الساحل الأخرى، وهو دور يؤيّده صناع السياسة الأميركيون بالكامل. وستستفيد الجزائر إذا لعبت أوراقها بشكل صحيح بينما تفقد فرنسا نفوذها في منطقة الساحل.
وينبغي لقادة الجزائر أن يكونوا حريصين على الاستثمار في الصناعة الإيطالية. ومن المؤكد أنهم يمتلكون الأموال اللازمة لذلك. لكن عدم اهتمامهم الواضح يشير إلى ضعف، حتى لا نقول غيابا تاما، للسياسة الاقتصادية والتفكير الإستراتيجي في الجزائر اليوم. ولا أثر للصحافي ياسين ولد موسى، وهو المستشار الاقتصادي للرئيس عبدالمجيد تبون الذي لم يبرز في الساحة منذ تعيينه في مارس 2022. ويبدو تبون نفسه ميالا للتصريحات الكبرى حول الغاز التي نادرا ما تعكس واقع هذه الصناعة.
ويعاني قطاع النفط والغاز من عائقين آخرين غير الافتقار إلى سياسة اقتصادية متماسكة ورفض السماح للقطاع الخاص في الجزائر بلعب دور أكثر استقلالية. ويبقى القائمون على الملفين الاقتصادي والصناعي رجالا متوسطي المستوى، حيث تقاعد معظم المدراء والموظفين الحكوميين ذوي المواهب أو هاجروا أو هُجّروا نتيجة عشرين عاما من الحكم الفاسد للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة (1999 – 2019). وليس لكبار ضباط الجيش والأمن أي ثقافة اقتصادية يمكن التحدث عنها ولا فهم حقيقيا لعالم الاقتصاد والمال سريع التغير. ويعدّ الحفاظ على رقابة مشددة على ثروة المحروقات في الجزائر الشيء الوحيد الذي يهمهم.
وكانت سوناطراك نفسها رهينة لمديرها التنفيذي السابق شكيب خليل الذي كان وزيرا للطاقة من 1999 إلى 2010. وكان قريبا جدا من نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ومن شركة هاليبرتون للخدمات النفطية التي أسسها. وبينما كان يسعى إلى تحرير قطاع الطاقة، أثار مشروع القانون الذي أصدره في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين غضب القيادة السعودية والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد تدخل هذان الطرفان لوقف ما اعتبراه، مثل عدد من النافذين في السلطة الجزائرية، وليس أقلهم الجنرال توفيق مدين، “خيانة” لا تخدم سوى المصالح الأميركية.
وقد نما الفساد في سوناطراك تحت قيادة خليل إلى حد أجبر العديد من المدراء الأكفاء على المغادرة. وتعرضت سمعة الشركة التي يمكن أن تفتخر بسجل حافل تطور على مدى عدة عقود لأضرار بالغة. وشهد عهد خليل تثبيت ثقافة الخوف في قطاع الطاقة الأوسع، وهي سائدة إلى اليوم، مما يفسر دفع القرارات إلى الأعلى، وبالتالي عرقلة عملية صنع القرار. وطالما لم يُسمح للمدراء ذوي الكفاءة بإدارة الشركة، فلن تكون سوناطراك في وضع يمكنها من الاستفادة من الفرص الهائلة المتاحة بابتعاد أوروبا عن الغاز الروسي وتحول العالم إلى الطاقة النظيفة. وتمتلك الجزائر احتياطيات كبيرة من الغاز غير المستغل والقدرة على تطوير الطاقة الشمسية، وهو ما فعله جارها المغرب بهمة.
◙ روابط شركات النفط والغاز الإيطالية تعود إلى استقلال البلد الأفريقي في 1962. ولعبت الشركات الإيطالية، وفي مقدمتها شركة الطاقة العملاقة إيني، دورا رئيسيا في تأسيس البنية التحتية للنفط والغاز في الجزائر
وتشتد الحاجة في قطاع الطاقة إلى يد سياسية قوية لدعم القرارات الإستراتيجية. وأدركت القيادة السياسية الجزائرية في عهد الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد المخاطر، واعتمدت مهندسين وإستراتيجيين بارعين مثل نورالدين آيت لاوسين والصادق بوسنة وعبدالحق بوحفص. ويعمل الجزائريون مثل هؤلاء اليوم في أميركا الشمالية والخليج (وخاصة في أبوظبي). ولا يُعتبر الرئيس تبون حتى ظلا لأسلافه في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.
لقد أضاعت الجزائر فرصة فريدة لإنشاء صندوق ثروة بعد الأزمة المالية 2008 – 2009 عندما كان بإمكانها الاستثمار في الشركات الغربية التي كانت تعمل بها وكانت في حاجة ماسة إلى رأس مال جديد، مثل بيجو. وكان من شأن مثل هذه السياسة أن تكسب البلاد قدرا هائلا من حسن النية، وخاصة في أوروبا. واختار الرئيس بوتفليقة بدلا من ذلك تبديد عشرات المليارات من الدولارات التي تراكمت في صندوق خاص لدعم البنزين والكهرباء. وكانت الأسعار في الجزائر من الأدنى في العالم، ولا تغطي حتى تكاليف إنتاج الكهرباء.
ويشير غياب التفكير الإستراتيجي إلى أن القادة الجزائريين سيضيّعون مرة أخرى فرصة ذهبية لتعميق روابطهم الصناعية والاقتصادية من خلال الاستثمار في صندوق “صنع في إيطاليا”. ويبقى موقع البلاد الجغرافي إستراتيجيا في شمال غرب أفريقيا، وجيشها القوي مجهز تجهيزا جيدا. وتعامل الولايات المتحدة وروسيا والصين والدول الأفريقية الكبيرة مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا الجزائر باحترام، لكن قادتها يبقون غير قادرين على التفكير بشكل إستراتيجي في عالم يتغير بشكل أسرع من أي وقت مضى منذ 1962. لكن المفارقة المحزنة هي أن التاريخ يعيد نفسه، وهو ما يدركه الجزائريون.