زايد وراشد: بناء الدولة واستشراف القيادة

اليوم يجتمع المحمدان بن زايد وبن راشد على نهج الوالدين المؤسسين ويواصلان مسيرة البناء والإنجاز برؤية تجاوزت الخمسين إلى المئة عام وانتقلت من الإقليم إلى العالم ومن الأرض إلى الفضاء.
الجمعة 2024/11/29
معا نستكمل الطريق لضمان استقرار الإمارات ونهضتها

اختارت دولة الإمارات العربية المتحدة أن تستقبل عيدها الوطني الثالث والخمسين بمهرجان تتشارك في الاحتفاء به القيادة والشعب، تقديرًا واحترامًا للزعيمين التاريخيين والقائدين المؤسسين المنحدرين من تحالف بني ياس القبلي التاريخي: الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، اللذان نجحا في تشكيل ملامح الدولة الوطنية وتكريس روح الاتحاد، واستطاعا أن يؤسسا لتحول استثنائي في منطقة الخليج ببناء أول تجربة وحدوية ناجحة في تاريخ العرب الحديث.

اليوم، تنظر الأجيال الجديدة سواء في الإمارات أو في المنطقة العربية أو في العالم بإعجاب كبير لما حققته دولة الاتحاد وهي لا تزال في ريعان شبابها، وكيف تحولت إلى قوة إقليمية ودولية تنافس على المراتب الأولى بما تحققه من مؤشرات تعطيها الصدارة في الكثير من المجالات، وتقدمها كنموذج رائع ومشرّف للتقدم والتطور والرقي الحضاري والتسامح والمحبة وأصالة الفكرة وجلاء الرؤية وصلابة الموقف.

وهذا التميز الإماراتي يدفع بكل ذي عقل حصيف ورأي سديد إلى مراجعة التاريخ والوقوف بإجلال أمام ذكرى الآباء المؤسسين الذين سبقوا العصر وأنكروا ذواتهم في سبيل بناء دولة تضمن أمن شعبها واستقراره ونهضته ورفاهه، وتكون جديرة بما وهبها الله من الموقع والمكانة والثروة وروح التاريخ وعبقرية الجغرافيا، وعلى رأسهم الشيخ زايد وأخوه الشيخ راشد اللذان بادرا بوضع اللبنة الأولى لدولة الاتحاد. وفي ذلك، أشار الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، إلى أن الاجتماع الثنائي الشهير الذي عقد بين زايد وراشد في فبراير 1968 كان على تلة رملية في “السديرة” القريبة جداً من منطقة “السميح”، وتم فيه الإعلان عن الاتحاد الثنائي بين دبي وأبوظبي بـ”مصافحة تاريخية بين الشيخ زايد والشيخ راشد، وتلك المصافحة تغني عن الكثير من الاتفاقات والرسميات عند العرب، كما أعلنا عن إبقاء الباب مفتوحاً لجميع الإمارات الأخرى للانضمام إلى الاتحاد”، وهذا ما تم بعد سنوات قليلة من هذا الاجتماع التاريخي الذي يعدّ أساس تكوين الدولة.

◄ الشيخ زايد المعروف بفراسته وذكائه وقدرته على تحليل الشخصيات كان يدرك أن ابنه محمد سيكون خليفته والسائر على دربه والمحافظ على إرثه والمتشبث بعقيدته الوطنية

وذكر الشيخ محمد أنه “تم نصب خيمتين صغيرتين، الأولى جلس فيها زايد وراشد بمفردهما، والثانية كانت مخصّصة لإعداد الطعام والقهوة، وحضر مع الشيخ زايد وراشد ثلاثة أشخاص مع كل منهما فقط”، وأضاف أنه “كان يقدم القهوة إلى المغفور لهما أثناء اجتماعهما في الخيمة، إذ أنه كان الأصغر سناً في ذلك الوقت، ولم يدخل عليهما أحد سواه”، مبرزًا أن العلاقة بين القائدين التاريخيين “كانت فريدة من نوعها تقوم على الود والتقدير والاحترام المتبادل. وإضافة إلى أنهما من أصل واحد وقبيلة واحدة، فالشيخان الكبيران كانا يؤمنان أن مصير أبوظبي ودبي واحد، وأن اتحادهما يحقق مصالح الوطن والشعب ويحفظ البلاد والعباد. وقد بدأت العلاقة بينهما وهما شابان صغيران، ونمت وتطورت مع الأيام، وكان بينهما اتصال دائم منذ أواخر أربعينات القرن الماضي، وساهما معًا قبل أن يتوليا الحكم في توثيق العلاقات بين إمارتي أبوظبي ودبي”.

بمناسبة مهرجان زايد وراشد، نشر الشيخ محمد بن راشد قصيدة تحولت إلى أغنية يقول مطلعها: “تقابلْ زايدْ وراشدْ ويكفي العودْ جنبْ العودْ/ ولأجلهم خَلَّصْ التَّاريخْ حِبرهْ وريشْ جنحانِهْ/ وأنا شاهدْ وأشاهدْ مَرجلهْ وعزْ وصنايعْ جودْ/ وكانْ المجدْ يبتسَّمْ وهمْ يبنونْ بنيانهْ”.

وكما هو معروف، فإن آل مكتوم حكام دبي قادة ووجهاء قبيلة البوفلاسة، المكوِّن الثاني لحلف قبائل بني ياس، والتي تربطها رابطة العمومة والخؤولة مع قبيلة البوفلاح وشيوخها آل نهيان حكام إمارة أبوظبي، بحيث أنهم يشتركون معًا في الجد محمد بن سلطان الجبلي الياسي وصولاً إلى جبلة بن أحمد بن ياس الجدِّ الأوسط لآل بوفلاح. وكان الشيخ راشد قد تزوج في العام 1939 من أسرة آل نهيان، عندما اختارت له والدته الشيخة حصة بنت المر فتاة في منتهى اللطف والطيبة والحكمة والرقي، وهي الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، الحاكم التاسع لإمارة أبوظبي خلال الفترة ما بين 1912 و1922، وهي ابنة عم الشيخ زايد.

وخلال فترة توليه منصب ممثل الحاكم في منطقة العين ما بين العامين 1946 و1966، توطدت علاقة الشيخ زايد بالشيخ راشد الذي كان قد تولى منصب ولي عهد دبي في العام 1939 ثم منصب الحاكم خلفًا لوالده الشيخ سعيد بن مكتوم بداية من العام 1958. ويروي المقربون من الشيخ راشد أنه شعر بسعادة غامرة وارتياح كبير عندما آل قرار أسرة آل نهيان في أغسطس 1966 إلى تولية الشيخ زايد حكم أبوظبي، وذلك لاعتبارات عدة تتجاوز الصداقة بينهما، إلى معرفة حاكم دبي آنذاك بانفتاح الشيخ زايد ورؤيته الثاقبة ونزوعه إلى التطوير ومواكبة العصر وجمع شمل القبائل المتفرقة التي كانت تواجه الكثير من التحديات، أبرزها تحدي البقاء في ظل الأطماع التي تحاصرهم من أكثر من طرف وعلى أكثر من صعيد.

بعد 18 شهرًا من تولي الشيخ زايد حكم أبوظبي، بادر بالتوقيع مع الشيخ راشد على وثيقة الاتحاد بين الإمارتين الجارتين، وفسح المجال أمام تعاون مثمر بينهما، وتم في ذلك بث بيان عبر إذاعة الساحل بالشارقة، تضمن دعوة بقية المشيخات للانضمام إلى الاتحاد، تأكيدًا على أن ذلك المشروع هو الحل الناجع الضامن للبقاء والمحقق للرفاه والمنقذ من الأطماع. لم يكن ذلك الاتفاق التاريخي وليد اللحظة كما يعتقد البعض، وإنما كان وليد الكثير من جلسات الحوار التي كانت تتم بين الرجلين، وقد كان الشيخ راشد يعلم جيدًا أصالة معدن الشيخ زايد ونبل مواقفه وعمق انتمائه العربي الأصيل، ونظرته البعيدة التي كانت تستقرئ ما قد تشهده المنطقة من تحولات جيوسياسية، كما كان الشيخ زايد مقتنعًا بخصوصيات الشيخ راشد الشخصية والسياسية والاجتماعية، وخاصة كرجل يجيد قراءة الواقع والنظر إلى المستقبل برؤية ثاقبة وكمتطلع لبناء نهضة شاملة متجاوزًا كل العراقيل التي كانت يمكن أن تواجه طموحاته بما في ذلك الإمكانيات المالية والاقتصادية.

◄ اليوم، تنظر الأجيال الجديدة سواء في الإمارات أو في المنطقة العربية أو في العالم بإعجاب كبير لما حققته دولة الاتحاد وهي لا تزال في ريعان شبابها، وكيف تحولت إلى قوة إقليمية ودولية

أعلن عن قيام دولة الاتحاد في الثاني من ديسمبر 1971 انطلاقًا من دبي تقديرًا للدور الكبير الذي قام به حاكمها، وآلت قيادة سفينة الدولة إلى الشيخ زايد بصفته الزعيم والحكيم ورجل العطاء والإيثار وراعي البناء والمتقدم صف المؤسسين بفكر وعقيدة شكّلا أهم حدث امتازت به منطقة الخليج خلال القرن العشرين. وقد نجح الرجلان في السنوات الأولى من تجاوز العديد من المطبات إلى أن أسس النهر مجراه، وعرفت السفينة طريقها، وأرسى الاتحاد دعائمه، وصولًا إلى ما أضحى عليه اليوم.

كان الشيخ راشد يدرك أن نجله الشيخ محمد هو الذي سيواصل مسيرته بالشكل الذي أراده عندما قرر تدشين مشروع نهضة دبي في أواخر خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي. وكان كثيرًا ما يسرّ للمقربين منه أنه يرى نفسه في ذلك الفتى الذي حضر قيام الاتحاد الثنائي في العام 1968 وهو في التاسعة عشرة من عمره.

ويبدو أن زايد وراشد كانا يجيدان قراءة المستقبل بذات الدرجة من الوعي بخصوصيات المستقبل ومتطلباته. ففي 30 نوفمبر 2003، أصدر الشيخ زايد مرسومًا بتعيين الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس أركان القوات المسلحة نائبًا لولي عهد أبوظبي، وهو ما يقضي بتولي الشيخ محمد “منصب ولي العهد عند خلوّه”، وهي أول بادرة من نوعها في تاريخ النظام السياسي داخل الدولة وفي منطقة الخليج، تهدف إلى تأمين المستقبل السياسي للإمارات، وإلى تحقيق رؤية الأب المؤسس الذي كان على قناعة راسخة بأن ابنه الشيخ محمد هو الذي سيواصل مسيرة البناء والإنجاز التي كان قد أطلقها على نطاق أبوظبي في صيف 1966 وعلى النطاق الاتحادي في ديسمبر 1971، إذ أن الشيخ زايد المعروف بفراسته وذكائه وقدرته على تحليل الشخصيات كان يدرك أن ابنه محمد سيكون خليفته والسائر على دربه والمحافظ على إرثه والمتشبث بعقيدته الوطنية.

اليوم، يجتمع المحمدان بن زايد وبن راشد على نهج الوالدين المؤسسين، ويواصلان مسيرة البناء والإنجاز برؤية تجاوزت الخمسين إلى المئة عام، وانتقلت من الإقليم إلى العالم، ومن الأرض إلى الفضاء، وتحولت إلى معجزة حقيقية تؤكد أن العرب قادرون على منافسة الدول الكبرى والمتقدمة بما يحقق لهم مكانة تليق بتاريخهم الثقافي والحضاري وببصماتهم التي وضعوها على سجلات المنجز الإنساني الخالد.

9