ريان الشيباني: الرواية في أصلها منتج برجوازي

ظل الاعتقاد راسخا، لوقت طويل، بأن الأدب اليمني يقتصر على الشعر، وأهمل الكثيرون الجانب النثري وخاصة السردي منه الذي تطور بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة مع روائيين وقصاصين اقتحموا مناطق غير مألوفة، ومن بين هؤلاء ريان الشيباني الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار حول نظرته إلى الكتابة.
عدن - في حديثه عن رحلة الكتابة التي خاضها وصولا إلى إنتاج روايته الموسومة “الحقل المحترق”، يقول الكاتب والشاعر والروائي اليمني ريان الشيباني إنه لم يكن ينظر خلال تلك الرحلة الإبداعية المعفرة بالشغف إلى الطرائق بقدر التصور العام بأنه يريد أن يستخدم التاريخ هذه المرة، هربًا من فنتازيا الواقع المعاش.
ويضيف الشيباني في حديث مع “العرب” أنه “مع القراءة والتفتيش، ومن ثم الكتابة، أتت التقنية كحالة من الكشف أو الإلهام، من أن زمن هذا العمل يجب أن يكون 24 ساعة على أكثر تقدير، إن لم يكن أقل. هناك أيضًا بناء دائري، يخلق مع المضي في زمن الكتابة، أي أنني بدأت من نقطة معينة وأنهيت القسم الأول عندها، ثم بدأت القسم الثاني من هذه النقطة وانتهيت عندها، قلائل هم الذين انتبهوا لهذا الخط الزمني الدقيق”.
منتج برجوازي
عن إشكاليات الرواية العربية في علاقتها المضطربة واللاتاريخية بالرواية الغربية، يقول الشيباني “نحن الذين نصنف أنفسنا اشتراكيين نميل إلى الخط الماركسي في التفكير، مقتنعون بأن الرواية في أصلها منتج برجوازي، وهي انعكاس لحالة الرفاه التي خلقتها الثورة الصناعية، لكننا لسنا راديكاليين لنعتبر كتابة هذا الشكل الأدبي أو الانحياز له خطيئة. أما بالنسبة إلى إشكالية الرواية العربية، فلست على اطلاع كامل يؤهلني لإصدار حكم متماسك”.
ويستدرك “لكن في المحصلة يبقى التأثير الغربي حاضرًا في هذا الشكل من الكتب، باعتبار أن طفرة الرواية تحققت بفعل الانحياز الغربي لها. هذا لا يعني أن السرد هو جنس كتابة غربي بالضرورة، فهناك دواع للأسبقية، وجدل يبرز بين لحظة وأخرى، لكن في النهاية عصر ازدهار الغرب هو عصر ازدهار الرواية”.
وعن فن الرواية وهل يحتكم لقواعد ثابتة، يرى الشيباني أن السياق الطويل للعمل الروائي وكتابته يتطلب العروج على الوعي واللاوعي كنص منضبط، وكتلة متماسكة، ويستدرك “لكن الذهاب باتجاه القاعدة على هذا النحو من الصرامة، يجرد أحيانًا النص من حيويته، ويجعله مدرسيًا أكثر. إن المسألة الإبداعية معقدة وتحتاج إلى عوامل كثيرة متظافرة، وليس إلى عنصر محدد كما في العلوم. الحدسي أيضًا شيء مهم في المسائل التي تحتاج إلى خيال، وهذا شيء من الصعب أن تقبض عليه، أو تضعه ضمن قواعد المنطق”.
وفي سرده لطريقة الفكاك من تعقيدات الواقع اليمني المحبط في ظل الحرب وانحسار الثقافة، يقدم الشيباني وصفته الخاصة للمضي قدما، كما يقول “بالنظر إلى مسألة الكتابة باعتبارها جزءا من الخلاص، وملاذا رائعا لممارسة التمزقات ورثاء الذات والآخر. يقول نيتشه ‘إن كل ما هو مهم وحاسم إنما ينشأ رغمًا عن الظروف'”.
وفي رده على سؤال حول احتياج الروائي إلى مجتمع روائي حتى تنضج ثمار روايته، وانطلاقا من تجربته في رواية “الحقل المحترق”، يقول “الكتابة في المحصلة هي فعل فردي، لكن هذا لا يعني تجاهل مسألة التراكم عند الحديث عن النوع. بالنسبة إلى الرواية اليمنية هناك مشكلة تعتريها، وهي سياق الكتابة. لفترة طويلة ظل الأدب اليمني يقدم نفسه على أنه الشعر، وفترة التسعينات نموذج جيد على هذا المثال. ثم عند الاتجاه إلى جنس الرواية، قلائل هم الذين التفتوا إليها باعتبارها نصًا طويلًا يحتاج إلى لحظة معايشة طويلة، ولذا كتبت بعض الأعمال الروائية بالمزاج الشعري القصير نفسه، أو يتم التمترس وراء الذات خوفًا من مجابهة الموضوع الذي يحتاج إلى مغادرة مزاج المقيل الجماعي”.
يعتبر الشيباني أن اليمنين في الشتات خلقوا كمّا لا بأس به من الأعمال الروائية، لافتا إلى وجود نوع من العزلة في ظل الواقع اليمني اليوم، باعتبار ذلك إحدى السمات الناظمة لحياة اليمني. ويتابع “العزلة هنا، ليست ما تقصده من أنها لا تواكب التحولات الاجتماعية، وإنما متعلقة بتسويق الأعمال، والعلاقات العامة الأدبية، وقدرة اليمني على تجاوز المحلي إلى الإقليمي”.
التاريخ والجماهيرية
في عودة إلى البدايات والتكوين الثقافي للروائي اليمني ريان الشيباني، وكيف انعكس ذلك على كتاباته الأدبية، يقول “مؤخرًا أصبحت أجد ملاذًا رائعًا في التاريخ، وهو مادة خام ومحفز مهم لمسائل الخيال. لكن أنا لا ألجأ إلى التاريخ لأني أريد أن أكتب رواية تاريخية، بقدر ما أجده جسرًا للعبور بي نحو مزيد من التخييل. ثم أتّجه أحيانًا لقراءة الأدب بالطريقة المعتادة التي لا تشعرك بالمتعة، لأنك هناك لا تبحث عنها، بقدر التنقيب في الأدوات والأساليب. أنا أيضًا أعمل في مجال حقوق الإنسان، وأتعامل مع كم هائل من المعلومات المتصلة بالناس وبالواقع اليمني، وأجد هذا إلى حد ما ملهمًا لجعلي متصلا بالواقع الحالي”.
ويرى الشيباني أن مسألة الجماهيرية في الأدب بلا قيمة، إلا بالنظر إلى مقدرتها على جعل الكاتب يعتمد على نصه في العيش، ويضيف “أما بالنسبة إلى تصنيف الأدب كجيد ورديء، فهناك معايير قد تعمل بشكل عكسي، إذ أن كثيرا من الأدب الجيد هو محل تجاهل جماهيري، على العكس من بعض الأدب الشعبي وربما المبتذل. أيضًا سوق الكتب لم تجد لها تنظيما كأشياء كثيرة في هذا الحضيض، ولذلك ومهما وصل التطلع الشعبي، فإنه لا يشكل رقمًا يمكن البناء عليه أو وضع مؤشرات مضبوطة بشأن المسألة الجماهيرية”.
في العودة إلى التقنيات التي يستخدمها في كتابة أعماله السردية، يقول “عادة أتهيب من المسألة التقنية، وأحاول أن أغادر مسألة التعقيد في الأدوات. أنا أشتغل في النص على مسارين: مسار اللغة ومسار الفكرة. فاللغة أوليها عناية أدبية خاصة، تمامًا مثلما أعتقد أن اختيار الفكرة يقع في ذات الأهمية”.
وحول سمة الخصوصية التي طبعت عمليه “نزهة الكلب” و”الحقل المحترق”، يضيف أن الاشتغالين مختلفين اختلافًا جذريًا. “نزهة الكلب” تعالج مسألة آنية، و”الحقل المحترق” تعالج تخييلًا تاريخيًا. الأولى بنيت على يوميات معالجة أدبيًا، والثانية مجردة من الذاتيات وتتمحور حول الموضوع. في “نزهة الكلب” أراد التقاط الإرباكات الأولى لحرب لا نزال نعيشها، وفي الحقل المحترق أراد أن يدين هذه الحرب.
وردا على سؤال حول الطريقة التي اتبعها في التملص من سطوة أعمال التكوين الروائي التي احتلت جزءا من ذاكرته الثقافية، يقول “بالطبع لا نجاة. في النهاية هناك من سيتهمك بالطريقة والأسلوب، وهناك من سيخوض حتى في تناص العنوان. لكن شرف الكاتب يبقى في بذله الجهد المطلوب لكتابة عمل جاد يجب أن يقرأ، في جعل عمر عمله أطول من الفقاعات التي عادة ما تنفجر في وجه قارئها”.
ويختتم الشيباني الحوار بالتأكيد على أنه “إنسان لا يكف عن التجريب”، بحسب تعبيره، مشيرا إلى وجود ما يصفه “دوشة” من الأعمال المعلقة، ومشاريع طويلة، لكن لا شيء على المدى القريب. ويضيف “هذه نصوص قصصية كنت قد كتبتها في أوقات متفرقة، وأحاول تنضيدها للنشر، لكن ليس من الهين أن تجد ناشرًا باشتراطات معقولة، على الأقل حاليًا”.