ريادة المغرب لقوائم منظمتي يونسكو وإيسيسكو ليست وليدة الصدفة

يزخر المغرب بتراث عريق يمثل شواهد حية على الحضارات التي تعاقبت على البلاد والمزيج الفريد الذي خلقته، وما تركته من عناصر تراثية وثقافية مادية ولامادية. ولعل المغرب من أكثر الدول العربية والأفريقية حرصا على تراثها وهو ما يؤكد تصدره لقوائم المنظمات الدولية لحماية التراث. وفيما يلي حوار مع الباحث المغربي محمد لملوكي حول أهمية التراث وطرق حمايته واستثماره.
عبداللطيف أبي القاسم
الرباط - صدر حديثا للأستاذ الجامعي والباحث المغربي محمد لملوكي كتاب جديد بعنوان “دليل الباحث في التراث الثقافي”. في هذا الحوار، يجيب لملوكي عن خمسة أسئلة حول دوافع إصدار هذا الدليل وأهدافه، ودور التراث الثقافي في التنمية الاقتصادية. كما يستعرض التموقع الريادي للمغرب على مستوى العناصر المسجلة تراثا عالميا وجهود حماية التراث الثقافي الوطني على المستويين الرسمي والمدني.
حول دواعي إصداره لكتابه “دليل الباحث في التراث الثقافي” يقول لملوكي “أولا كونه متعلقا بموضوع التراث الثقافي الذي أصبح اتجاها بحثيا في طور النمو والتراكم، يخترق تخصصات متعددة. ومن جهة أخرى، اقتنعنا بعد تجربة متواضعة في التدريس الجامعي ومتابعة بحوث تخرج الطلبة، وتأطير مجموعة من الدورات التكوينية والزيارات الميدانية للمعالم التاريخية والمواقع الأثرية، بمدى حاجة الطلبة والباحثين والمهتمين إلى مرجع عبارة عن دليل منظم خاص بالتراث الثقافي".
يجمل الباحث أبرز أهداف هذا الإصدار، في كونه يسعى لأن يكون إضافة نوعية ترقى بالبحث الجامعي نظرا وطريقة ومضمونا، حيث تلتئم فيه مجموعة من الميزات البيداغوجية والمعرفية والتقنية والتنموية قلما تأتلف في الكراسات الجامعية الموجهة أساسا لطلبة الجامعة.
ويضيف "الكتاب يربط معطيات متفرقة ومختلفة حول التراث الثقافي ويجعل بعضها في خدمة بعض. وهذا الاتجاه الذي نما بشكل تصاعدي في البحوث المهتمة بالتراث، يميل إلى الميدان ويجافي التنظير. فصدور دليل في التراث الثقافي يتماشى مع هذا التوجه ويروم إغناء النقاش حول العمل الميداني وطرق استثماره. ناهيك عن جعل الباحث يتعاطى مع قضايا التنمية والراهن، ومشاركا في اقتراح الحلول المناسبة لحسن الاستثمار والتدخل فيه”.
ويؤكد لملوكي أن هذا الدليل يستجيب من جهة أخرى لضرورة قصوى متعلقة بهشاشة التراث الثقافي وموت الذاكرة الحاملة له بموت المسنين. وهو بالتالي يسهم في دعم الباحثين وتوجيههم في أعمال ومشاريع تروم تحصينه وتوثيقه بالتدوين والتصنيف في شكل قواميس وموسوعات ومكانز، أو في شكل أطاليس تصنيفية.
ريادة مغربية
يرى الباحث المغربي أن اهتمام الدول بتراثها الثقافي يتجاوز كونه حنينا إلى الماضي، ليشكل دعامة أساسية لتنميتها الاقتصادية، ويقول حول ذلك "لا أحد يشك الآن في أن التراث الثقافي دعامة أساسية في التنمية الاقتصادية للدول والجماعات على مستويات عدة؛ مباشرة وغير مباشرة، وبشكل يتكامل فيه التراث المادي بغير المادي".
ويتابع "إذا بدأنا بأبعد جوانب التراث، في ذهن البعض، عن البعد الاقتصادي كالحكايات والأغاني والموسيقى الشعبية والطبخ.. فالجميع يعرف على سبيل المثال أن جاذبية مراكش وشهرتها مدينة لساحة جامع الفنا وأنشطتها الفرجوية والشعبية في المقام الأول قبل مآثرها العمرانية والتاريخية. والأمر نفسه بالنسبة إلى موسم طانطان وموسم حب الملوك. لكن كيف نحصن هذا التراث من التنميط، لا بد من بحوث علمية رصينة تحفظ أصالة هذه العناصر وتفردها وارتباطها ببيئتها الطبيعية".
ويبين أن "من المكاسب الاقتصادية الاجتماعية المرتبطة بالموروث الثقافي ما ينشأ من تنمية اجتماعية تتجلى في فرص الشغل بهذا القطاع وخاصة الحرفيين وحاملي المهارات والمعارف التراثية، حيث تشتغل فئات اجتماعية عديدة بحرف تراثية منها الحدادة والنجارة والدباغة والوراقة والصياغة، أحيى الاهتمام بالتراث مهنها وتحسنت مداخيلها وانبعثت مهاراتها. وهذه الفئة الآن، ينظر إليها كصمام أمان في ديمومة التراث والحفاظ عليه".
ويضيف لملوكي “من مؤشرات ذلك، تزايد الطلب على المنتوجات الحرفية محليا ودوليا، وشهرة العديد من أعلام التراث الشعبي واستدعاؤهم للمحافل الوطنية والدولية. وتبعا لهذا الاهتمام توسطت محلات بيع المنتجات التراثية أهم محاور المدن الكبرى واستوطنت، أحيانا، أغلى العقارات بالحواضر وجدران المطارات بالمملكة. وطبيعي أن يحصل هذا تحت نمو النشاط السياحي الداخلي منه والخارجي".
يحتل المغرب موقعا رياديا من حيث عدد العناصر الوطنية المصنفة تراثا لا ماديا على مستوى القارة الأفريقية والعالم العربي، سواء على قوائم منظمتي يونسكو أو إيسيسكو. ويعلق الباحث حول هذه الريادة أن "ثمة عوامل متداخلة أهلت المغرب لهذا الموقع المتقدم. فمن من وجهة نظر التاريخ والتجربة، فقد أولت السياسة المغربية اهتماما كبيرا بإنشاء الهيئات، والمؤسسات، والإدارات ومشاريع الترميم ذات الصلة بمجال التراث وصونه وأرشفته بشكل مبكر. وعلى سبيل المثال، فقد صنفت كثير من معالم المغرب التاريخية ضمن سجلات المحافظة بموجب ظهائر وقوانين ملزمة (ظهير بتاريخ 11 أغسطس 1914 المتعلق بترتيب أسوار مراكش وترتيب أسوار الحصن البرتغالي وقصبة أكادير سنة 1932 كمثالين على ذلك..)".
◙ المغرب يحتل موقعا رياديا من حيث عدد العناصر الوطنية المصنفة تراثا لا ماديا على مستوى القارة الأفريقية والعالم العربي، سواء على قوائم منظمتي يونسكو أو إيسيسكو
ويتابع “كما يعد المغرب من أوائل الدول التي انضمت إلى منظمة اليونسكو منذ أول دورة لمؤتمرها العام بمدينة دلهي الجديدة عاصمة الهند في نوفمبر من سنة 1956، وترأس إحدى هيئآتها الرئاسية مرتين: الأولى وهي المجلس التنفيذي ما بين 1964 و1965 في شخص محمد الفاسي، والثانية ما بين 2001 و2003 في شخص عزيزة بناني. وقد توج المغرب انخراطه الفعلي مع هذه المنظمة بإدراج عناصر من تراثه الثقافي كتراث للإنسانية (فاس 1981، ومراكش 1985، وقصبة أيت بن حدو 1987، ومكناس 1996، ووليلي وتطوان 1997، والصويرة 2001، والجديدة 2004،..) وعناصر عديدة من التراث الثقافي غير المادي عبر ربوع المملكة كالتراث الشفهي بساحة جامع الفنا سنة 2001، وموسم طانطان سنة 2004، ومهرجان حب الملوك بصفرو، ورقصة تاسكوين وكناوة والكسكس والصقارة والنخلة والأركان والتبوريدة". أما جغرافيا، فيوضح أن موقع المغرب جعل منه ملتقى للحضارات والتأثيرات الخارجية. فتشكل على أرضه تراث غني ومتنوع يعكس مساره التاريخي وانصهار مكوناته الثقافية.
عرفت الفترة الأخيرة تسجيل محاولات للسطو على عناصر عدة للتراث الثقافي المغربي ونسبها إلى جهات أخرى، كما هو الشأن بالنسبة إلى الزليج والقفطان وغيرهما. ويعلق لملوكي على ذلك قائلا "بالفعل ظهر مؤخرا سباق بين الدول نحو تسجيل عناصر التراث الثقافي لدى المنظمات المعنية، وهذا التسارع نتجت عنه محاولات في السطو والتدليس على الدول ولجان المنظمات طبعا، وإلا فلا يمكن لمثل هذه المحاولات أن تنال من تراث المغرب العريق والمعروف كوجهة سياحية عالمية".
ويضيف "في نظري، فإن الرد على هذه الحوادث هو تعزيز سجلات وقوائم جرد عناصر التراث الثقافي المغربي وتوثيقها توثيقا وافيا شاملا. وهو ما تنبهت إليه الجهات الوصية عبر فتح مشاريع توثيق عناصر من التراث الثقافي المغربي عبر جهات المملكة. وقد أسندت هذه المهمة إلى فرق بحث متخصصة تشتغل وفق منهجية علمية وعمل ميداني حقيقي. ونأمل أن تتواصل هذه العملية وفق خريطة يتوزع فيها العمل على مختلف مجالات التراث الثقافي من جهة، وعلى مختلف ربوع وجهات المغرب من جهة ثانية".
حماية التراث
ويذكر أنه في هذا الصدد، يأتي إسهام مثل هذه الإصدارات "أدلة العمل سواء الميداني أو النظري والمنهجي" ليرفد مثل هذه المبادرات ويقويها ويسندها. ومن أجل ضمان حصانة التراث أيضا يأتي دور البحث العلمي والمقاربة الجامعية لموضوع التراث باعتبارهما أساسيين للغاية من أجل النهوض بالموروث الوطني جردا وتوثيقا وتأصيلا وتكوينا. أما الشق الثاني من مقاربة الموضوع، الذي هو الترميم والصيانة والتوظيف في التنمية الاقتصادية، فرغم كونه موكولا إلى جهات أخرى تنفيذية من إداريين وتقنيين وغيرهم، إلا أنه متوقف على البحث العلمي الجامعي ابتداء.
ويخلص لملوكي إلى أن "من ضروريات التدريب والبحث التسلح بمفاهيم التخصصات الأخرى ذات الصلة والعمل في إطار المجموعات والفرق العلمية متعددة التخصصات. ولن يتأتى للطلبة ذلك إلا بمباشرة تداريب وتربصات داخل المؤسسات المعنية والزيارات العلمية المؤطرة لأوراش الترميم والمحافظة والاحتكاك بمفاهيم ومناهج التخصصات العاملة في المجال كالهندسة المعمارية وعلم المتاحف والأركيولوجيا وغيرها".
نسأل الباحث كيف يمكن في نظركم خدمة هذا التراث إلى جانب الجهود المؤسساتية الرسمية في حمايته، ليجيبنا “ظهرت مؤشرات واضحة ألقت بظلالها على واقع التراث بالمغرب والمجال التنموي والترافعي بشكل عام. فقد بدأ ينتج خطاب حول التراث الثقافي يعج بمفاهيم وقضايا مرتبطة بالتنمية. وتوفرت حولها مادة علمية ووثائقية مهمة بفضل تعدد البرامج والمشاريع العلمية الرسمية منها والفردية. وحصل فيها نوع من الوعي بالأهمية التنموية للتراث. يمكن هنا أن نستدل بنماذج كثيرة بالمدن التاريخية المغربية كمراكش وفاس وغيرهما. كما برز المجتمع المدني مع بداية الألفية الثالثة كفاعل أساسي في الاهتمام بالتراث؛ بتنشيط التظاهرات والبحث عن الشراكات وخلق المبادرات التنموية حوله”.
ويشير لملوكي إلى أن قضايا التراث باتت تحضر بأشكال مختلفة ضمن اهتمامات شبكة الجمعيات التي تعد شريكا موثوقا بالنسبة إلى العديد من الجهات الأجنبية الداعمة، مما جعلها تنخرط إلى جانبها في مشاريع ذات تمويلات مهمة وارتباط مباشر بالسكان. وتبعا لذلك، حاولت هذه الجمعيات أن تستوعب الأنظمة التدبيرية التقليدية (كالقبيلة والجماعة والتويزة…إلخ) وتبعث تراث المناطق التي تنشط فيها من خلال إحياء عناصر التراث الثقافي ونشر الوعي به، بل وإحيائه وتدبيره مثل السهر على أنظمة السقي التقليدية واحتفالات دينية وطقوس كانت في طريقها إلى الانقراض. بالإضافة إلى العديد من الألعاب الشعبية والعادات القديمة (بلماون أو بوجلود بأكادير وموكب الشموع بسلا وتغنجا بالشرق…).
ويضيف “هذا الانخراط للمجتمع المدني وترافعه عن قضايا التراث في مختلف المحافل الوطنية والدولية يعد كفيلا بضمان نجاعتها وفعاليتها. وقد توج هذا الترافع لدى بعض الجهات بإدراج عناصر التراث ضمن قائمة التراث الإنساني كما حصل مع رقصة تاسكوين”.