روسيا على حافة السؤال الأخير

اللحظة التي تواجه فيها روسيا الخيار بين قبول الهزيمة وبين استخدام أسلحة نووية تقترب. وقد لا نصل إلى نهاية العام الثاني من غزو أوكرانيا، قبل أن تكون روسيا قد عرفت الجواب.
الغطرسة التي ظل يمارسها الرئيس فلاديمير بوتين، قد تقترح جوابا. إلا أنه ليس بالضرورة الجواب الوحيد.
المسؤولون الروس يلوحون باستخدام أسلحة نووية منذ اللحظة الأولى للحرب. كانوا يعرفون سلفا أنهم لا يستطيعون مواجهة القوة العسكرية التي يهددهم بها الحلف الأطلسي. وكانوا يريدون إقناع أوروبا، بأنهم كقوة “عظمى” نووية، يجوز لهم أن يفعلوا ما يشاءون، ويجوز لهم أن يتمددوا إلى أينما يرغبون.
الدعم العسكري غير المسبوق الذي تلقته أوكرانيا على امتداد ما يزيد على عام ونصف العام من الحرب، والتعهدات الأمنية التي قدمتها قمة الأطلسي في فيلنيوس، وبرامج التسليح السخية التي جعلت كل مصانع الأسلحة والذخائر الغربية تعمل لصالح كييف، قالت شيئا واحدا، هو أن شوكة التحالف الغربي لن تنكسر أمام التهديدات النووية الروسية.
◙ ذل الهزيمة لن يتغير باستخدام أسلحة نووية تكتيكية. سوف يصبح أشد وطأة. والجيش الروسي لن يعود قادرا على الدفاع عن مواقعه في أوكرانيا إذا ما توفرت لدول حلف شمال الأطلسي إرادة طرده بالقوة
عندما بدأت روسيا الغزو يوم 24 فبراير 2022، كان ثمة معنى للحرب بالنسبة إلى موسكو. كانت هناك أهداف إستراتيجية وأطماع جغرافية وخرائط أمنية جديدة وموازين دولية لكي يُعاد النظر فيها، تحاول موسكو أن تمليها على كييف وعلى دول التحالف الغربي.
ماذا بقي من كل ذلك الآن؟
لا شيء قطعا. كل شيء سار عكس المطلوب. والحرب تتحول إلى استنزاف طويل الأمد. وبالكاد تستطيع القوات الروسية أن تحافظ على مواقعها مقابل ثمن باهظ. وبرغم كل ما استخدمته روسيا من هجمات شرسة، ودمار شامل متعمد للبنى التحتية، إلا أن أوكرانيا ظلت قادرة على أن تجند قدراتها من أجل استعادة أراضيها المحتلة. وانخرط التحالف الغربي كله في عملياتها العسكرية المضادة.
هناك عدة أسباب دفعت أوروبا والولايات المتحدة إلى الوقوف في وجه الغزو الروسي، وصولا إلى الاستهانة التامة بتهديدات موسكو النووية. أحد أهم تلك الأسباب، أن غزو أوكرانيا ظهر كخطوة أولى للإطاحة بالنظام الدولي. أي للإطاحة بنفوذ ومصالح وهيمنة الاقتصادات الغربية. ترافق ذلك مع قوة اقتصادية صاعدة في الصين بدت وكأنها مؤهلة، لكي ترث ذلك النفوذ وتلك المصالح، بينما تبدو روسيا وكأنها هي القوة الضاربة للنظام الدولي الجديد.
التراخي أمام هذا الطموح ما كان ليعني بالنسبة إلى الغرب إلا شيئا واحدا، هو قبول الموت البطيء، بكل ما يتبعه من انقلاب تاريخي لموقع الحضارة الغربية في التاريخ. كان ذلك يعني، بعبارة أخرى، “نهاية التاريخ” من الجهة المضادة.
وأحمق من يعتقد أن الغرب، في الدفاع عن نفوذه ومصالحه، سوف يتردد، هو قبل موسكو، في استخدام الأسلحة النووية.
لا تقترح على الغرب موتا زؤاما، وتحسب أنك يمكن أن تنفذ بجلدك. هذا افتراض غبي.
يدرك الغرب أنه متفوق بكل الوسائل الأخرى، ما يغنيه عن السلاح النووي. وكل ما يحاول التحالف الغربي أن يفعله، هو أن يستعرض هذا التفوق.
العاجز، وغير المتفوق، هو الذي بقي يهدد بالنووي.
السبب الآخر للوقوف الغربي في وجه الغزو الروسي، هو أن طموحات موسكو التوسعية ثوب لا يتناسب مع حجمها الحقيقي، لا في القوة العسكرية ولا في الاقتصاد ولا في المكانة بين دول العالم.
الحرب تتحول الآن إلى حرب استعراضات ليس للقوة التدميرية فحسب، وإنما للتفوق التكنولوجي أيضا. فمنذ أن أصبحت صواريخ “هيمارس” التي تتوجه إلى أهدافها بتقنية تحديد المواقع “جي.بي.أس”، كان يمكن للعسكريين الروس أن يفهموا أنهم خسروا اللعبة.
◙ تمرد فاغنز كان اختبارا أول لزعزعة أرض الغطرسة. عشر دبابات على أبواب الكرملين سوف تكفي لتقديم الجواب اللائق على ذلك السؤال الأخير
تعهدات التسليح الجديدة التي قدمتها دول الأطلسي، تضيف ميزات استعراضية أوسع ضررا بالقوات الروسية.
المنازعات الجارية بين جنرالات الجيش الروسي، دع عنك تمرد فاغنر نفسه، تكشف عن حقيقة أن هذا الجيش يُقلّب أوراق الهزيمة، وليس أوراق النصر. وبينما يراهن بعض الجنرالات الروس على العنف الوحشي بما لديهم من أسلحة عمياء، وكأنهم يقاتلون في حلب، يرى بعضهم الآخر أن أسلحة الحلف الأطلسي تصيب مراكز القيادة وخطوط الإمداد ومخازن الذخيرة حتى لتجعل الاستمرار في الحرب عملا من أعمال الانتحار الجماعي.
يقول سيرغي لافروف “إن الغرب يريد أن يلحق هزيمة إستراتيجية بروسيا”، ليوحي بأنها تدافع عن حقها في الوجود كقوة عظمى.
ما من أحد كان يريد أن يلحق تلك الهزيمة بروسيا. روسيا هي التي أرادت، بسوء التقديرات، أن تلحق هزيمة إستراتيجية بنفسها. فهي شنت الحرب ضد أوكرانيا بنوايا توسعية معلنة، لم تبق شيئا عن استعادة العظمة الإمبراطورية إلا وقالته.
الغربيون يؤمنون بقول يفيد “ضع لسانك أينما تضع نقودك”. مئات المليارات من الاستثمارات الغربية في روسيا برهنت على عكس مزاعم لافروف. وهو يعرف ذلك. أوروبا كانت تريد لروسيا أن تبقى جزءا منها؛ قوة إضافية من قواها، بما في ذلك، في منافسة النفوذ الأميركي عليها. وليس العكس. ولكن، مثلما أدى سوء التدبير إلى أن تصبح روسيا خردة في جيب الصين، اضطرت أوروبا إلى أن تبقى في جيب الولايات المتحدة. هم حلفاء تقليديون لبعضهم البعض على الأقل، وبينهم روابط ثقافية، أكثر بكثير مما لدى روسيا مع الصين.
لا تحتاج أن تضيف طائرات أف - 16 إلى التفوق الأوكراني على الأرض لتعرف أن ساعة الحقيقة تقترب.
لافروف، هذه المرة، وليس ديمتري ميدفيديف المتخصص بإشاعة الذعر النووي، هو الذي يقول الآن “إن استخدام طائرات أف - 16 يشكل تهديدا نوويا لروسيا”. ولكن ليس لأنها قادرة على حمل أسلحة نووية، بل لأنها تجعل ساعة الحساب الأخير أقرب حتى بالنسبة إلى الذين يراهنون في موسكو على أن إطالة أمد الحرب قد توفر لهم فرصا دبلوماسية أفضل.
◙ الحرب تتحول إلى استنزاف طويل الأمد... برغم كل ما استخدمته روسيا من هجمات شرسة، ودمار شامل متعمد للبنى التحتية، إلا أن أوكرانيا ظلت قادرة على أن تجند قدراتها من أجل استعادة أراضيها المحتلة
سؤال تلك الساعة هو: هل ننسحب بذل الهزيمة؟ أم نستخدم أسلحتنا النووية؟
ذل الهزيمة لن يتغير باستخدام أسلحة نووية تكتيكية. سوف يصبح أشد وطأة. والجيش الروسي لن يعود قادرا على الدفاع عن مواقعه في أوكرانيا إذا ما توفرت لدول حلف شمال الأطلسي إرادة طرده بالقوة، انتقاما من عمل لا يمكن لأوروبا أن تتحمله.
الاستعدادات تجري منذ مايو 2022 لجعل قواعد القوة الجوية الأميركية في رومانيا هي مصدر الرد الأول على أي هجوم نووي تستخدمه موسكو.
الفرقة 101 المحمولة جواً، تقف بكاملها على بعد 5 كيلومترات فقط من الحدود مع أوكرانيا. وطائرات أف – 35 الموجودة هناك لا تحتاج إلى الكثير من التوغلات لكي تقصف مواقع القوات الروسية على امتداد خطوط الجبهة.
سوف تحتاج موسكو، حينئذ، أن تجيب على سؤال آخر وأخير: هل نقصف واشنطن بالنووي؟ أم هل نقصف لندن لكي نردع واشنطن؟
جنرالات الجيش الغاضبون هم الذين سوف يقفون للرئيس بوتين.
تمرد فاغنز كان اختبارا أول لزعزعة أرض الغطرسة. عشر دبابات على أبواب الكرملين سوف تكفي لتقديم الجواب اللائق على ذلك السؤال الأخير.