رواية سعودية تفتح غرفة امرأة وتعيد تفسير الجنون

يحضر موضوع الجنون ثيمة في الأدب العربي والعلمي منذ قرون، إذ يستعمل المجانين لكشف الحقائق بطرق فيها من السخرية والمزج بين الواقع والخيال، كل ذلك لكسر صلابة ما اعتقدنا طويلا أنه واقع واحد ثابت وتحويله إلى قطع مرآة لكل منها صورة وزاوية نظر. وهذا ما نجده في رواية الكاتبة السعودية أمل الفاران الباهر المعنونة بـ”حجرة”.
لا يمكن لقارئ رواية “الصخب والعنف” لوليم فوكنر أن يكون قد مر بشخصية “بنجي” دون أن يكون قد توصل إلى أن هنالك عوالم أخرى تحيا فينا وبيننا وأن عجزنا عن إدراكها يعود إلى إغلاقها بابها دوننا. مع بطله “المعتوه” بنجي يدفع فوكنر باب العُته/ الجنون قليلا فندرك من خلفه أن العالم هو ما نراه من العالم؛ حقيقة شائكة ومربكة، ليس لمن عبر الباب، بل لمن تُرك خارجه.
في الفصل الأول من رواية “الصخب والعنف”، وهو الفصل المروي بلسان بنجي، يُدخلنا فوكنر إلى عالم من الظلال؛ كل شيء حقيقي وغير حقيقي في نفس الوقت. المثير للإرباك والدهشة في هذا العالم هو شكله الظلّي، شيء شبيه بعالم الظلال في الكهف الأفلاطوني.
وعلى مدى الفصل الأول من الرواية يتحكم بنجي برؤيتنا، هو المنظار الوحيد الذي من خلاله وبواسطته يمكننا أن نطل على عالم اعتقدنا طويلا أننا نعرفه.
جنون الخالة
الكاتبة تتجنب بذكاء كل مباشرة في ذكر وتعداد أو إعادة سرد مآسي الاختلاف بينما تسلط الضوء على نتائجه
في عمل أمل الفاران الباهر المعنون بـ”حجرة”، والصادر عن دار أثر، تقوم الروائية بما قام به فوكنر سابقا، تسحبنا بهدوء إلى ما خلف باب حُجرة بطلتها. هناك نغدو ظلالا لواقع ظلّي… ثم إنها تحشر هذه الظلال في فم العالم المعتل الذي اختارته لبطلتها، إما أن نؤكل أو نؤكل. لا شيء خلف الباب سوى الظلال والأفواه. ليس غريبا إذا أن يكون عنوان الرواية “حجرة”، فالعته انغلاق، ولا سبيل إلى فهمه حتى لو فتحنا له الأبواب.
ورد في لسان العرب عن “جنّ” و”الجنون” ما يلي: “جَنَّ الشيءَ يَجُنُّه جَنّاً: سَتَره. وكلُّ شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك… وفي الحديث: جَنَّ عليه الليلُ أَي ستَره، وبه سمي الجِنُّ لاسْتِتارِهم واخْتِفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجَنينُ لاسْتِتارِه في بطنِ أُمِّه”.
الجنون إذا حجب، لكن عمّن؟ عن الآخر؟ عن “العاقل” أم عن نفسه؟ إن كان عن الآخر فعالم المجنون هو إذا المحجوب، ولا تهمّ نفسه وما يُحجب عنها وما يظهر لها. الجنون إذا لا يخص المجنون نفسه بل المحيطين به، كالموت تماما، وما الجنون إلا موت مرمّز بالنسبة للعقلاء.
فإن لم يكن حجبا عن الآخر فهو إذا اختفاء المجنون نفسه عن البصر، فيُغيّب بسبب علّته بعد أن كان موجودا. لقد خرج من الوضوح والضوء والرؤية وصار في عتمة لن يصلها سواه، لذا فقد احتجب.
ولأن الجنون حجب واستتار واختفاء فقد حُوكم المجانين بالحجب والاستتار والإخفاء طويلا: نعالج الجنون بحجبه، فما لا نراه وما لا نفهمه وما يُحجب عناّ غير موجود. فإن كان موجودا حقيقة، سنُخفيه، نعزله أو نقصيه، فإن زاد في حجبه وغيابه عنّا قتلناه. ولهذه الغاية أقيمت السجون ودور المجانين، وفي مجتماتنا كان الحبل والوثاق والحبس في الغرف بعض أهم الحلول لمواجهة الجنون.
الجنون مرهون في عملي سارتر والفاران بالانغلاق فما يحدث داخل حجرة، لا يمكن أن يحدث وسط الناس
هذه هي بالمختصر سياسة العقلاء لمواجهة أزمات المجانين. لكن قاعدة المجانين كبيرة وتكبر تبعا لخوف العقلاء من تهديداتهم، فقد يكون أي فنان أو شاعر أو حكيم أو خارج من الملة أو غريب أطوار أو معلول مجنونا. كل ما لا يُفهم وفي عدم فهمهِ تهديد لمنطق “العقلاء” فهو مجنون.
في هذه الرواية المجنونة – وأقول مجنونة لأؤكد الترابط المتقن فيها بين الشكل والمضمون، وهو تأكيد عبثي على كل حال، لأنه لم يثبت أن هناك رواية جيدة بمضمون جيد وقالب غير جيد، ولا بقوالب جيدة مع مضامين فارغة – الشكل صدى للمضمون وانعكاس له وبالعكس. هنا تطرح الروائية أمل الفاران أزمة جنون امرأة تدعى مريم، وتنخرط في تعقيد ردود الأفعال حيال الجنون متمثلة بآراء وأفعال ابني أختها موضي اللذين تحجم الرواية عن ذكر اسميهما.
لكن هل هذا العمل عن الجنون حقا؟ هل ما تفعله مريم وقرينها القزم وأفكارها وإحساسها المختلف بالعالم من حولها هو انزياح للعقل؟ ألا يمكن أن يكون الأمر برمته هروبا متنكرا؟ تتردد الكاتبة في تسمية حالة بطلتها بالجنون وتنقل هذا التردد على لسان بطليها اللذين بعد جدال يتخذان وجهتي نظر متناقضتين تجاه مريم، أو تجاه الجنون، لأن مريم – كما يريدها النص – لا شيء خارج جنونها.
يقول ماتيو بيتلو صاحب كتاب “الجنون والاستضافة: طريقة أخرى لاستقبال الأشخاص ذوي الاضطرابات النفسية”، “لا يعاني المريض النفسي من اضطرابه، بل على العكس، يبادر إلى اللجوء إلى الجنون ليجنّب نفسه وضعا لا يمكنه تحمله. إنه قرار يهدف إلى تسخير الحالة أو تجاوزها، وذلك للهروب من وضع لا يمكن التعايش معه […]. هذا الملاذ قد يتحول إلى سجن، وهذا القرار يصبح لا رجعة فيه عندما يؤمن المجنون بالمسرحية التي يقوم بها ويتورط فيها، وعندما يختار المصاب بالهستيريا أن يصبح مصمتا تجاه الواقع”.
لنتذكر أن هذا الاقتباس هو رأي عقل يحاول فهم الجنون، ولنتذكر أن الباب مسدود أمامه كما أمامنا جميعا، على من هم في الداخل – داخل الحجرة – أن يحكموا على صدق الكلام من زيفه. ولكن لنتناسى أن العقل يحاكم الجنون هنا ونكمل. فإن اتفقنا مع ماتيو بيتلو – وهذا الرأي ليس بعيدا تماما عن نظرة فوكو لمفهوم الجنون الذي يرى أنه ليس عطبا عقليا يستوجب العلاج، بل نمط وجود أصيل يتضمن نظرة الفرد نفسه للعالم – أقول إن اتفقنا مع بيتلو فهل يكون المجنون هو الأصدق بيننا؟ هل هو صدقه الذي يبدو لنا جنونا؟ هل يكون جنونه بالفعل رؤية مختلفة للعالم لا يمكننا تقبّلها لفرط ابتعادها عما اعتدناه وتعاملنا معه؟
في محاولة ابنة موضي، ابنة اخت مريم، معرفة أحوال خالتها تتوصل إلى أن جنونها ما هو إلا محاولة لتمثيل ذاتها كما هي، لا كما يُتوقع منها. تسأل خالتها التي لا تجيب “هل بعقلك شيء فعلا؟! راقبتك مذ أتينا. تفعلين ما تريدين. تأكلين حين تجوعين. تنامين حين يغلبك النعاس. تخرجين متى شئت. أولئك الذين لا تحبينهم يعرفون. تبينين ذلك بوضوح. لم تحاولي إخفاء قلبك. هل هذه أفعال مجانين؟ هل تخيفينهم لأنك تفعلين ما لا يستطيعون فعله؟ تخيلي أن أفعل مثلك؟ ألا أعتني بالبيت. ألا أعد لعرس أخي القريب. ألا أصنع بخورا لحجرته الجديدة”.
لكن تساؤلات ابنة موضي حول جنون/ سلامة خالتها لا تقاوم كثيرا أمام اجتياح الصور النمطية للسليم/ المجنون. لذا تستسلم لكون خالتها مجنونة، وهنا تقدم الرواية وجهتي نظر مختلفتين للتعامل مع الجنون. الأولى هي وجهة نظر الشاب، ابن أخت مريم، وتتمثل في هروبه من حقيقة اعتلال خالته، إذ يتغاضى عنه، يقمعه بما يتوفر عليه من وسائل، ينكره، ثم حين يقرر الاعتراف به يكون الوقت قد فات على أي تفهم واحتواء لمرض الخالة. الإنكار المستمر والاعتراف المتأخر هما ما يدفعانه في نهاية الرواية إلى تغييبها. عليك قتل ما أنكرته وإلا ستكون قد اعترفت به طوال الوقت. الإنكار لا يخفي الحقائق، بل يجعلها أعنف، إنه يولّد العنف. الإنكار عنف دموي.
في المقابل تقر البنت بجنون خالتها، أو خروجها عن المألوف، وهذا الإقرار يمنحها صبرا على الخالة، تتحمّلها وتحمل عنها وحتى تؤكد انتماءها لها وتعدِها – وهي العاجزة تماما – بحمايتها.
بين سارتر والفاران
الجنون لا يخص المجنون نفسه بل المحيطين به، كالموت تماما، وما الجنون إلا موت مرمّز بالنسبة إلى العقلاء
في قصة بعنوان “الغرفة” وردت ضمن مجموعة “الجدار” للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، نقرأ حكاية مماثلة عن زوج مسلوب يصارع وحوشا غير مرئية بينما يسير ببطء وإصرار نحو الجنون. حوله تحاك ردود أفعال مشابهة لما في رواية “حجرة”.
في تشخيص لحالة المريض يقرّ الدكتور فرانشو المعالِج أن المجانين كلهم كاذبون وأن المرء سيضيع وقته لو أراد تمييز ما يحسّونه حقيقة عما يدّعون أنهم يحسّونه. لكن قصة سارتر أقل ولوجا لعالم المجنون من رواية “حجرة”، وهذا التحدي يكتب لرواية الفاران استثنائيتها.
صحيح أنها لم تنقل للقارئ العالم من وجهة نظر مريم، إلا أنها نقلت عالمها المفكك كما هو، نقلت حواراتها مع قرينها وما ألح عليها من وساوس وما فعلته بينما يفلت العقل منها شيئا فشيئا. كشفت لنا الكاتبة – وهي بذلك لا تناقض الجنون ذاته – بعض ما يظهر لمريم في عالمها المنغلق عليها. أدركت الفاران أن الوضوح العقلي سيُخرج جنون بطلتها من لا عقليته، لذا أبقت عالمها مغلقا رغم اقترابها منه، فلا صوت من ذلك العالم الآخر، لا تفسير، لا كلام، لا شيء غير العتمة والصمت. اللا مرئي يحكم ويتحكم بتحولات الروح، أما المرئي، أقصد الجسد، فيتحرك ككل المرئيات مطالبا بقِسمته البهيمية من العالم؛ طعام، شراب، نوم…
ولكي تحافظ على انغلاق عالم مريم على نفسه اكتفت الكاتبة بإضاءات لعالمها المرئي واللا مرئي بطرق رمزية. فكان المرئي من عالم مريم على الشكل التالي: “عين مريم مصوبة نحوه.. في الزاوية يقلد أبها وهو يرقع ميقعة مكسورة.. تدرس كل حركة منه.. تأمل أن يخطئ في حركة أو ينسى تفصيلا.. تصفق بيديها وهي تنبهه وتنتقده.. يغضب جدا.. يرمي الميقعة المتخيلة.. يتبول على فراشها.. يغرق مخدتها.. يقترب حبوا فتكف ساقيها الممدودة..”.
أما اللا مرئي من عالمها فكان كما يلي: “تطفو في الفضاء وجوه متعددة.. وجوه مجوفة كأقنعة.. أقنعة نحاسية براقة مشغورة الأعين والأفواه.. تقترب منها.. يرتطم بها بعضها.. تهشها بيد تنملت.. تعود بأعداد كبيرة.. تدخل مريم غابة الوجوه..”.
في قصة سارتر، تقرّر الزوجة ما إن ترى اللعاب يسيل من فم زوجها أن تغيّبه. حتى في الحب على المجنون أن يختفي عن نظر العقلاء، فتُقسم زوجته على أن تقتله قبل أن يتشوه. في “حجرة” يتم تغييب مريم على مراحل تبعا للمواقف، ثم عندما تتحول إلى حيوان تُغيب لمرة واحدة وإلى الأبد. وهنا يُغيّب المجنون عن كره وعجز لا عن حب.
لا عجب أن الجنون مرهون في العملين بالانغلاق، بحُجرة، ما يحدث داخل حجرة، لا يمكن له أن يحدث وسط الناس، في الحقول، وسط المدن أو الوديان أو القرى، ما يحدث يحدّده الانغلاق، فمن منهم كان الأسبق؟ الحجرة أم الجنون؟ هل كانت هناك حجرة داخلية في مريم ألزمتها بحجرة خارجية؟ هل كان بها جنون خفي أظهرته على السطح قيود مجتمع مجنون؟ هل تم تصنيع الجنون أصلا عندما حُشِرت مريم في الحجرة وأُلزِمت بالانغلاق؟
لا تعطي الرواية أي تبرير لجنون مريم ولا تفسيرا لارتباطها بالحجرة، لكن الارتباط بين جنونها ولجوئها إلى الحجرة واضح وضوح الشمس. قدران؛ أحدهما يبرر الآخر ويسوغه.
نتائج الاختلاف

في “ثوب أزرق بمقاس واحد” كتبت بطلة روايتي لتربط بين اعتلالها النفسي وحُكم إلزامها بالداخل، تقول “أفترضُ أن عالم الداخل هو استعاضة عن فقداننا للعالم الخارجيّ. القاعدة تنصّ على أن نعيش في الخارج وللخارج، أن نفكّر ونحن نسير، أن نتأمل ونحن نتحرك، أن نبني حياتنا ونحن نتفاعل مع أشيائها ببساطة، مع الحجر والشّجر والعشب والخشب والحديد، مع الأرصفة والأبنية والناس المختلفين. أمّا الاستثناء فهو أن نضطرّ لاستعاضة ما نُحرم منه في الخارج بالعالم الداخلي؛ عالم الجدران المغلقة والأفكار والخيالات والهُلام الممتد. ولذا يُسجن المذنبون. لو لم يكن الداخل حرمانا لما عُوقب المذنبون والمجانين والمعتوهون والمشوهون به. كلّ ما نود دفعه إلى الخلف نحتجزه ونغلق عليه…”.
في “حجرة” تعيش البطلة هذا الاستثناء بالذات، استثناء كالقدر يتحكّم بحياة الكثيرات من النساء. لذا يصبح جنون الخالة ذنبا فاضحا ما إن تتخطى باب بيتها، الجدران المغلقة تجعله أكثر ألفة، منسيا تقريبا. لكنها هي الجدران ذاتها التي تفتح باب الجنون. فلا عجب إذا أن تكون اللحظات التي تشعر فيها ابنة موضي باقترابها من الجنون هي لحظات انغلاقها في حجرة الجدة. لذا أحبت باحة الدار وأحبت الناس أيا كانوا، أرادت أناسا حولها، أرادت فتحا.
الجنون الذي لا يعقل نفسه في هذا النص يؤكد أنه دفع إلى الحدود القصوى، حرّضته على ذلك سلسلة من الممارسات القمعية القائمة على نفي، إخفاء، إقصاء وحتى إنهاء حياة المختلف، غير المألوف. وفي الرواية بعض السمات القمعية ظاهرة وإن لم تطرحها الكاتبة بشكل مباشر. فمثلا في عمق حيرته من حالتها، يلعن الشاب، ابن اخت مريم، النساء جميعا.
ليست هناك في الرواية أي إشارة أخرى حول النظر إلى الجنون كعلة تخص جنسا دون آخر، لكن هذه الإشارة الوحيدة تلمع في قلب الرواية كضوء كاشف. ألم تكن تعقيدات عالم النساء هي التي حاول الجنس المسيطر على الدوام التحكم بها؟ بل ألم يجعل ذلك العالم معقدا ليسهل التحكم به؟ ألم يكن عجزهم عن فهم عالم النساء هو ما سهّل عليهم إطلاق الأحكام عليهن وعلى عوالمهن؟ لنتذكر الهستيريا التي ارتبطت بالنساء وبأرحامهن طويلا فأعتُبرت حتى الرغبة الجنسية من ضمن أعراضه المرضية. أخيرا ألم تسهم الأحكام الجائرة مضافة إلى الكسل في الاحتواء في جعل الاعتلال النفسي من نصيب النساء أكثر؟
تتجنب الكاتبة بذكاء كل مباشرة في ذكر أو تعداد أو إعادة سرد لمآسي الاختلاف. الكتابة هنا تسلط الضوء على نتائج الاختلاف وأعراضه. أما عن القيود المجتمعية القامعة للذوات الجامحة فقد قيل الكثير. هنا نحن متلقّين للضربة ومنهمكين بآثارها. نطالع النتائج وإحداها كائن مشوه، غير نفّاذ، وغير حاضر بأي شكل.
أما نتائج الضربة فنحن لا نتلقاها كقرّاء من خلال فنون الجنون فحسب، بل كذلك من خلال سحر الكتابة السردية. فما يجعل هذا العمل الصغير ساحرا هو لغته السردية البارعة.
في مستهل عرض ميشيل فوكو لأطروحته حول الجنون قال “لكي نتحدث عن الجنون، علينا أن نمتلك موهبة شاعر”. أعتقد أن الأمر ينطبق تماما على هذا العمل؛ ما كان دخولنا لعالم جنون مريم ممكنا لولا الموهبة الشعرية/ السردية للكاتبة والتحكم البارع بلغتها بحيث تبلغ وتكثف الحدث دون زيادة أو نقصان. فمن خلال جمل قصيرة، متلاحقة، يرشقنا النص بشظايا من عالم مريم، شظايا تصيب كل محاولات فهمنا وتفسيراتنا لجنونها. في نص يُبهِر بدقة لغته ومرونة حركتها بين عالم العقل واللا عقل، لا نجد سوى القليل من نقاط الوقف (.) وأقل منها الفواصل (،) أو الفواصل المنقوطة (؛). فالكتابة بدأت لألا تنتهي إلا وهي تقول لنا ما حصل وما حصل “بعد كل شيء”.
اللافت في نص الفاران السائل هو النقطتان المتتاليتان. هذ الاختيار شيء غير اعتيادي في استخدام علامات الترقيم، ولذا فتفسير حلولها في النص يتوقف علينا كما يتوقف علينا فهم جنون بطلتها وعالمها الخفي.
النقطتان المختارتان لتشبيك جمل هذا العمل كاملا تنسحبان من المألوف من استخدام النقط في النصوص. فالنقط هي عادة إما ثلاث – وهي نقاط تتابع أو الحذف (…) -، أو نقطة التوقف الواحدة (.). ما يربط جمل هذه الرواية لا هي هذه ولا تلك، بل نقطتان تنسجان بلا معهوديتهما ولا ألفتهما ثوب الرواية كاملة. النقطتان لا تفيدان التتابع إذا ولا الحذف، لأن الجمل مقطوعة، كل واحدة تقول ما تقوله على حدة وعلى دفعة واحدة. ولكنهما لا تفيدان التوقف أيضا: فالنص سائل، يسيل بلا توقف، يسيل كأن الوقوف سيزيّفه أو يرخي الحبل الذي تشده الكاتبة حول عنق القارئ الغارق بجنون شخصيتها، مريم.
ربما في زمان ما، في مكان ما، كنا نألف الجنون إلى درجة لا نجد داعيا لتسميته، كنا نحياه ونراه ونتعامل معه خارج تصنيفات العقل/ اللا عقل. ربما لو أعدنا صورة الكمال قبل الفصل، ربما سننفي بضربة واحدة كل السياسات القمعية التي تتحكم بحياتنا، من أصغر تفاصيلها إلى أكبرها.