رواية جزائرية تستعيد أحداث "المسيرة السوداء"

الرباط – يعود الكاتب الجزائري منصور قديدير في روايته الجديدة بعنوان “مغاربة الجزائر، مداهمة عند الغروب” إلى أحداث تاريخية هامة بين الجزائر والمغرب، كان لها تأثيرها الممتد في الشعبين وفي تاريخ العلاقات ما بين البلدين، في قالب سردي يحكي التاريخ من زوايا أكثر عمقا.
وتتناول هذه الرواية الصادرة عن دار “ملتقى الطرق” للنشر والواقعة في 344 صفحة من الحجم المتوسط والمكونة من 10 فصول، الأحداث المأساوية والمؤلمة لترحيل وطرد الآلاف من العائلات المغربية من الجزائر إثر الأزمة التي نشبت بين البلدين في سبعينات القرن الماضي.
وتعود الرواية إلى فترة سابقة عرفت فيها العلاقات الجزائرية – المغربية قمّة توترها خريف سنة 1975، فبعد التطمينات التي أرسلها الرئيس الجزائري الهواري بومدين إلى السلطات بالرباط، بأنّ موقفه من الصحراء داعم لـ”التفاهم الحاصل بين البلدين الشقيقين المغرب وموريتانيا في شأن المنطقة، والهادف إلى توطيد دعائم الأمن والطمأنينة والاستقرار والتعاون”، حسب ما ورد في بيان مشترك وقّعه آنذاك وزير الخارجية عبدالعزيز بوتفليقة والملك الحسن الثاني، تغيّر ذلك الموقف لتميل دفّة تعمّ الجزائر نحو جبهة البوليساريو المطالبة باستقلال الصحراء.

رواية تستدعي الماضي بكل أحداثه
وقام النظام الجزائري في عهد بومدين بطرد 45 ألف أسرة مغربية، أي ما يناهز نصف مليون مغربية ومغربي، من الأراضي الجزائرية في الثامن عشر من ديسمبر عام 1975 في ما يعرف بـ “المسيرة الكحلة”.
ونفذ النظام الجزائري “المسيرة الكحلة” كرد فعل على دعوة الملك الراحل الحسن الثاني للمسيرة الخضراء لتحرير الأقاليم الجنوبية المغربية من الاحتلال الإسباني.
وعلى خلفية توتر العلاقات الدبلوماسية المغربية – الجزائرية سنة 1975، اختارت السلطات الجزائرية تصفية حساباتها السياسية العالقة مع الرباط بطرد الآلاف من المقيمين المغاربة من أراضيها، فيما سُمّي وقتها بـ”المسيرة الكحلاء” أو “المسيرة السوداء”.
وتصف الرواية، التي يحمل غلافها صورة لمخيم للعائلات المغربية المرحّلة من الجزائر التقطت سنة 1976 بالناظور، بالتفصيل مأساة هذه الواقعة وأثرها في نفوس الضحايا الذين أرغموا على الرحيل من دفء منازلهم إلى التشرد في الخيام والعراء.
وتنضبط الرواية إلى ما يسمى بالرواية التاريخية التي تستدعي الماضي وتعيد خلق أجواء فترة ولّت وانقضت، فتقدّم عالما متجذرا في التاريخ، حيث تتقاطع مصائر الشخصيات المتخيلة مع شخصيات تاريخية، داخل إطار تُعاد تهيئتُه بدقّة، فتمتزج الأجواء والأماكن والمشاهد الموصوفة بما اتسمت به حقبة من حقب التاريخ من أحداث سياسية وعسكرية وبنى اجتماعية ومواجهات أيديولوجية. وتعتمد، شأن الرواية المتخيلة، على حبكة درامية وتوتر وانفراج ووصف وحوار، ولكنها تختلف عنها من جهة تحديد الفترة الزمنية، وترتيب الأحداث وفق خيط رابط وإجلاء معنى يقبل الدلالة والتأويل.
كما تنخرط الرواية في هذا النمط الذي يشترط ألا تكون الشخصية التاريخية هي الشخصية المحورية، بل يسند ذلك الدور إلى شخصية متخيلة محايدة تسمح بوضع المصير الفردي والمصير الجماعي في وضع مواجهة، ويستحسن ألا يكون البطل طرفا في نزاعات الشخصيات التاريخية، بل يمكن أن يكون فردا غمرا من الغوغاء، وفي ذلك قطيعة مع أبطال الملاحم.
ولا يلتزم قديدير بالتاريخ الرسمي فحسب بل يخلق شخصيات متخيلة ليعيد إنشاء الحدث التاريخي بشكل جديد، يلتزم بالتاريخ ويحاول الغوص أعمق في مشاعر الشخصيات وأفكارهم ومعاناتهم، وذلك لفهم أوسع وأكثر سلاسة للأحداث ولخلفياتها وتأثيراتها.
ويستهل قديدير كتابه برسالة من جبهة التحرير الوطني الجزائرية إلى “الإخوة المغاربة”، والتي جاء فيها أنه إذا انتزع الشعب المغربي استقلاله، فستتواصل حرب التحرير بالجزائر بشكل أكثر قوة من ذي قبل.
الرواية تركز على القصة المأساوية لعادل، ووالده علال الذي عرف عنه مشاركته في حرب تحرير الجزائر، واللذان عانيا من هذا الطرد التعسفي والمباغت إلى المغرب الذي قامت به السلطات الجزائرية
وجاء في الرسالة “في ذكرى اندلاع ثورتنا، نحن متأكدون أنكم ستعبرون أكثر من أي وقت مضى عن تضامنكم مع إخوتكم الجزائريين”، وختمت بعبارة “عاش المغرب، عاشت الجزائر، عاش المغرب العربي الموحد”.
ويتساءل الكاتب على غلاف كتابه عن تعامي الحكومة الجزائرية عن جريمة الترحيل، قائلا “كيف لرجل بهذا المستوى (بومدين) الذي حقق إنجازاته الكبرى انطلاقا من قاعدة وجدة، والذي التزم تجاه إخوته المغاربة بتحرير المغرب العربي، من كان يتوقع أن رجلا تجمعت حوله الحشود، ووزع الأراضي على صغار الفلاحين، وأمم حقول النفط والمناجم التابعة لشركات متعددة الجنسيات، ودافع عن حقوق الشعوب المضطهدة، أن يتورط في هذا الوحل القذر؟”.
وتركز الرواية على القصة المأساوية لعادل، ووالده علال الذي عرف عنه مشاركته في حرب تحرير الجزائر، واللذان عانيا من هذا الطرد التعسفي والمباغت إلى المغرب الذي قامت به السلطات الجزائرية.
ويمكننا أن نخلص من الرواية إلى أن كل حكي هو في الحقيقة إنجاز فعل، وكل سرد هو نتاج عمل، أي أننا ننجز التاريخ كما ننجز عملا أدبيا. والحكي ليس مجرد تسجيل لوقائع، وإنما هو عرض ونظر وتأويل، كذلك الرواية التاريخية وإن تسربلت بإهاب السرد التخييلي الصّرف.
ويعي قديدير بعناصر نصه الذي أراده لا تدوينا أدبيا جماليا فحسب وإنما وثيقة تاريخية، ورسالة أدبية تسعى لترسيخ رسالة إنسانية سامية، قوامها التسامح والعودة إلى التاريخ لفهمه والاستفادة منه والتأسيس لواقع مغاير ومستقبل أفضل، وما الأدب في النهاية سوى رسالة إنسانية سامية تتجاوز الجماليات الشكلية على أهميتها إلى جماليات الأفكار.
ويذكر أن الكاتب قديدير صدرت له عدة أعمال، من بينها “غضب السهوب” (1987) و”موت الطفل الشرعي” (1999) و”الليلة الأطول” (2015).