روايات المدن المنكوبة

انتشرت في بضع السنوات الأخيرة في عالم الرواية العربية أعمال تختار أسماء مدن كانت تعدّ مدنا هامشيّة غير معروفة إلّا في حدود ضيّقة، لتكون مسرحا لأحداث الرواية.
الاثنين 2018/05/14
جان دوست انتقم من الدمار الذي لحق بمدينته الصغيرة كوباني

ما الذي يمكن للروائي أن يفعل وهو يرى مدينته غارقة في وحول الحرب؟ كيف له أن يستعيد تلك الصورة التي يحتفظ بها في ذاكرته عن تفاصيل المدينة التي تسكنه؟ هل يمكن له أن يوقف تسارعها إلى نقطة الخراب الشامل والدمار المريع الذي يستدرجها؟ هل يقف الروائيّ مكتوف اليدين وهو يعاين الخراب بأمّ عينيه؟

لا يخفى أن الروائيّين يعدّون في الحروب الدائرة حلقة ضعيفة من حلقات المجتمع الذي يتعرّض للتنكيل على يد الأطراف المتحاربة، والقوى المتصارعة على الأرض، ومن خلف الحدود، وتلك التي تدعمها، بحيث لا تتجاوز أصواتهم الداعية إلى السلم، ووجوب وقف الحرب دائرة مطلقيها أنفسهم في الكثير من الأحوال.

تجيير فنّي وتسويقي لاسم المدينة
تجيير فنّي وتسويقي لاسم المدينة

المدن المنكوبة هي زاد الروائيّين لتوثيق الحاضر والاحتفاظ بالتفاصيل للمستقبل، هي طريقتهم لإعادة المدن التي كانت بصيغة متخيّلة، يعيدون رسم معالمها وجغرافياتها في خيالهم وعلى صفحات أعمالهم، عساهم يخفّفون من أعباء الهمّ الذي يسكنهم إزاءها، ويشعرهم بضرورة الإسراع لتأدية ما يمكن من أجل إنقاذ ذاكرتها التي هي ذاكرتهم وذكرياتهم الراسخة فيها وعنها.

حين يكتب الروائيّون عن مدنهم المنكوبة فإنّهم يَرثونها، يستنهضون ركامها عساهم يجدون بعض العزاء في إعادة بنائها في رواياتهم، وكأنّهم ينتقمون من الحرب والخراب بالأدب والتخييل، أو كأنّهم يؤدّون ما عليهم من واجب حفظ ذاكرة المكان وهويّته المستلبة.

انتشرت في بضع السنوات الأخيرة في عالم الرواية العربية أعمال تختار أسماء مدن كانت تعدّ مدنا هامشيّة غير معروفة إلّا في حدود ضيّقة، أو أحياء من مدن صغيرة أو متوسطة، لتكون مسرحا لأحداث الرواية، ومتصدّرة عناوين الروايات باعتبارها أماكن شهيرة ذات وقع خاصّ على الأسماع.

من روايات المدن المنكوبة التي حاولت استعادة المكان، أو توثيق راهنه المؤلم، رواية “كوباني.. الفاجعة والربع” للروائيّ السوريّ الكردي جان دوست، الذي انتقم من الدمار الذي لحق بمدينته الصغيرة كوباني (عين العرب) التي هجم عليها تنظيم داعش، وتدخل التحالف الدولي لدعم المقاتلين الأكراد وتحريرها، لكن بعد إلحاق دمار شبه كامل بها.. وجاءت محاولة جان دوست من منطلق الانتصار للذاكرة والمكان والتاريخ والذات، ولم تخلُ من تجيير فنّي وتسويقي لاسم المدينة الذي أصبح على كل لسان بعد تركيز الإعلام العالمي عليها.

هناك روايات أخرى ركّزت على مدن منكوبة أخرى، سواء في سوريا أو العراق أو لبنان، أو في دول أخرى تشهد مآسي وحروبا وصراعات دموية، بحيث تتشكل قناعة ما لدى الروائيين أنّهم قد يضيّعون بوصلتهم أمام عتبة المستقبل إذا لم يكونوا أمناء على ذاكراتهم، وهويات مدنهم المنكوبة، وأرواحها المنهوبة، التي هي تجليات لضياع أبنائها في مغترباتهم وملاجئهم من بعدها.

15