روائي عراقي يمزج الواقعي بالغرائبي والفانتازي

القاص والروائي العراقي نزار عبدالستار، يعتبر بحسب تصنيف نقاد العراق، من جيل التسعينات، الجيل الذي خرج عن السياق التقليدي للسرد مؤسّسا لمغايرة فنية في الشكل والمضمون، وهو من أكثر الروائيين العراقيين والعرب التقاطا لمواضيع صعبة، وهو الذي اختيرت روايته الأخيرة “تِرتِر” لتكون واحدة من 13 عملا سرديا من أصل 382 عملا، وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للآداب.
يمتاز سرد القاص والروائي العراقي نزار عبدالستار (مواليد بغداد 1967) بمزج بين الواقع والغرائبية الفانتازية، وقد نالت كتاباته اهتماما واسعا في الأوساط الأدبية العراقية حيث حاز عام 1999 على جائزة “أفضل رواية عراقية” عن اتحاد أدباء العراق، وجائزة “الإبداع” التي تمنحها وزارة الثقافة العراقية، وذلك عن باكورة أعماله الروائية “ليلة الملاك”، كما حاز في 2008 جائزة “الإبداع” للمرة الثانية عن مجموعته القصصية “رائحة السينما” والتي حقّقت رواجا واسعا، وأعيد طبعها أكثر من مرّة.
صراع القدامة مع الحداثة
صدرت لنزار عبدالستار ثلاثة مجاميع قصصية وأربع روايات، آخرها رواية “تِرتِر”، الصادرة حديثا عن دار “هاشيت أنطوان” في بيروت، والتي اختيرت قبل أيام لتكون واحدة من 13 عملا سرديا من أصل 382 عملا، وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للآداب في دورتها الثالثة عشرة (2018–2019)، وعنها وعن مجمل مشروعه الكتابي الإبداعي دار حوارنا معه.
في بداية حديثه مع “العرب” يحدثنا نزار عبدالستار عن سيرته الإبداعية، قائلا “أول مغامرة أدبية تجرأت على القيام بها كانت رواية بوليسية، حدث ذلك في السنة الثانية عشرة من عمري، بعدها بخمس سنوات نشرت جريدة ‘الحدباء’ نصا قصصيا هو الأنضج لي، الأمر الذي أعطاني همة تجريبية عالية الطاقة، وفي السنوات الواقعة بين 1985 و1995 تشكلت لديّ رؤية ارتدادية بسبب الحروب وما كانت تهشمه فينا، فصرت أبحث عن تقنيات قصصية مغايرة، وقتها كنت على اتّصال قرائي بكل التيارات الوليدة من مرحلة منتصف القرن العشرين ومتأثرا بكل الاختراعات الإبداعية التي كان آخرها كتابات أميركا اللاتينية، ولكنني لم أكن مطمئنا حينها للتباعد بين عقلية المثقف وبين الواقع المخنوق بالانغلاق والجهل، ما دفعني إلى توجيه اشتغالي الأدبي نحو تطويع البنية الاجتماعية كتابيا فصرت مهتما بالميثولوجيا والأنثروبولوجيا”.
هناك فرق بين الأدب الإيروتيكي والتوظيف الإيروتيكي في الرواية، ومن غير المعقول فصل الإنسان عن غريزته بدواعي الحشمة
يضيف عبدالستار “أعتقد أنّ رواية ‘ليلة الملاك’ وبعدها المجموعة القصصية ‘رائحة السينما’ هما ذروة ما توصلت إليه في تلك الفترة وشكلا عنوانا جامعا للمغايرة التي سعيت إليها في النصف الأول من تجربتي الكتابية، وكان عليّ بعد الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003 أن أبدأ مرحلة أخرى أجدها مكملة للأولى حتى وإن اختلفت بالشكل”. ويتابع عبدالستار حديثه معنا مقدما لقراء “العرب” روايته الجديدة “تِرتِر”، ويخبرنا ما الذي أملى عليه حكايتها، دون أن يفوته إعلامنا عن مدلول عنوانها بالنسبة له، فيقول “رواية ‘تِرتِر’ تتحدث عن الجذور الأولى لصراع القدامة مع الحداثة من خلال فكرة سكة حديد برلين – بغداد التي اتّفق السلطان عبدالحميد الثاني مع حليفه إمبراطور ألمانيا (فيلهلم الثاني) على تحقيقها لتحجيم الدور الإنكليزي في المنطقة وقطع طريق الهند البري”.
ويردف “الرواية تحكي عن الآنسة آينور هانز وهي ألمانية من جهة الأب وتركية من جهة الأم، يرسلها السلطان عبدالحميد الثاني إلى مدينة الموصل كي تعمل على إنشاء صناعة نسيجية وإدخال التجار الألمان إلى المدينة، ولكن آينور تذهب إلى أبعد من ذلك فتقدم على بناء مستشفى وتدخل جهاز الأشعة السينية (إكس) إلى الموصل للاستخدام الطبي، لتكون أول مدينة في العالم تجرب اختراع العالم الفيزيائي الألماني فيلهلم كونراد رونتغن، الأمر الذي يوقع آينور هانز في صراع مع رجال الدين المتشددين”.
ويتابع صاحب “الأميركان في بيتي”، قوله “تِرتِر هي اللمعة الآسرة للأمل وبريق الحلم الذي يمكن له أخذنا إلى الدفاع عن الجمال والحياة”.
ما بعد الحداثة
بسؤاله هل يدرج روايتيه الأخيرتين “تِرتِر” و”يوليانا” ضمن “الروايات التاريخية”؟ وما هي الحدود الفاصلة بين الكتابة الروائية والتوثيق أو التأريخ؟ أجابنا نزار عبدالستار “تِرتِر ليست رواية تاريخية وكذلك يوليانا، وأنا ضد إدراجهما في هذا الإطار، أعمالي الأدبية تنتمي إلى رواية ما بعد الحداثة، لأن فيها الكثير من الانتقاد والتشكيك وإعادة الصياغة والاختلاق”.
وتابع “في يوليانا يوجد تصحيح للاهوت، وهي تطرح رؤية تسليم القدرة الروحية إلى الإنسان الضعيف والمهمش، ثيمة العمل هي قلب موازين المعجزة الغيبية وإبطال مفعول القداسة الكلاسيكية، أما تِرتِر فهي تنتقد العقلية الدينية المتشددة التي تقف ضد العلم والتطور”.
ويشير محاورنا إلى أنّ “الرواية التاريخية دائما ما تكون ملتزمة بالمسارات والوقائع”، لافتا إلى أنه لم يفعل هذا في روايتيه “يوليانا” و”تِرتِر”، مؤكدا أنه “من الطبيعي أن يستثمر فنّ الرواية التاريخية والتوثيق، وهذا ما جرى في مرحلة ما بعد الحداثة، وهو يعني هنا الهدم ثم إعادة بناء الواقعة وفق المخيّلة الجديدة”.
الناقدة البريطانية كيت ميتشل ترى أنّ للذاكرة دورا محوريا في العلاقة بين التاريخ والرواية التاريخية، فماذا يرى صاحب “ليلة الملاك”؟ يجيبنا “كيت ميتشل على صواب فالذاكرة المتوفرة هي المحور الأساس في تحديد العلاقة بين التاريخ والرواية التاريخية، وهذا الكلام ينطبق على الرواية الفكتورية الجديدة التي اهتمت بها كيت، لأنها شكلت قاعدة واسعة للأدب الإنكليزي، فلندن وباقي المدن فيها الكثير من شواهد العهد الفكتوري الذي يعود إلى ما بعد 1837، وهذا يغري الكتاب بالرجوع إليه خاصة مع توفر ذاكرة موثقة بدقة، لكن أنا كروائي عربي أفتقر تماما إلى الذاكرة، ولا توجد في خزائننا الروائية انتماءات جمالية وفنية لعصر من عصورنا التاريخية، وكل الذين كتبوا الرواية التاريخية كانوا ينكلون بالتاريخ ويوظفوه سياسيا ويعملون على تزويره”.
ويضيف “لقد أسّست أوروبا جمالياتها الفنية على العصور الماضية، لأن التاريخ الأوروبي أنتج الفن والجمال، وهم يعودون إليه لأنّ هناك فرقا هائلا بين الكرسي على طراز لويس الرابع عشر وبين الكرسي على طراز لويس الخامس عشر، هكذا تأسّست النخبة: على الجمال والإبداع الفني، أما الرواية التاريخية العربية فهي تتكلم عن قصص التراث أو عن فجور السلاطين وملذاتهم أيام زمان، وهذا يتعارض تماما مع رواية ما بعد الحداثة”.
ويتابع محدثنا كلامه “في رواية تِرتِر هناك إعادة تركيب لمسرح الحدث، وهذا ما تفعله عادة الرواية الفكتورية المرتكزة على قاعدة بيانات غزيرة متوفرة عن فترة حكم الملكة فكتوريا، ولكن تِرتِر تدخل أيضا في منطقة الخيال والإثارة، وهذا ما أرى أنّ الرواية العربية بحاجة إليه كي تخرج من الذاتية والسطحية”.
وحول ما نلاحظه من اتّجاه في الرواية العربية الجديدة نحو الغوص في محرمات الجنس والسياسة، نسأل ضيفنا، هل يرى ذلك “موضة” أم هو اتّجاه تفرضه الضرورة؟ فيقول “لا شك أنّ قسما كبيرا مما نراه مطروحا في المكتبات هو لدواع تجارية، وفي الغالب لا ينتمي إلى فنّ الرواية، لكن القضية الأساس هنا، هي صعوبة تفهم العقلية الرقابية العربية لوظيفة الأدب ولشمولية الإبداع، والتابوات في النهاية هي وهم الرقيب وضحالته الثقافية، وهي لا تشكل بأيّ حال من الأحوال هدفا مجردا في العمل الإبداعي”، مشددا على أنّ “هناك فرقا بين الأدب الإيروتيكي والتوظيف الإيروتيكي في الرواية، ومن غير المعقول فصل الإنسان عن غريزته بدواعي الحشمة”، ولفت إلى أنّ “الرواية تتكلم عن الحياة وقطعا لا يجوز تقييدها بافتراضات غير عملية”.
وفي نهاية حوارنا مع القاص والروائي نزار عبدالستار سألناه عن انشغالاته الآن، وما الذي يهجس به على صعيد الكتابة؟ فقال “أشتغل الآن على رواية جديدة عنوانها ‘ست الدنيا’ تدور أحداثها في بيروت، ومن المؤمل الانتهاء منها في بدايات العام المقبل”.