رهانات تونس بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي

في هذا الخضم تجد تونس نفسها في مفترق طرق: إما أن تبقى رهينة انقساماتها السياسية أو أن تبدأ السير على درب الإصلاح الاقتصادي بما يعكس إمكانياتها وقدراتها ويخرجها من مستنقع الأزمة.
الجمعة 2022/10/28
أزمة دامت أكثر من اللزوم

تنفس المسؤولون التونسيون الصعداء في الخامس عشر من أكتوبر بعد إعلان صندوق النقد الدولي عن مصادقته الأولية على منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار في نطاق اتفاق على حزمة من الإصلاحات.

اعتبر السياسيون في السلطة هذا الإعلان المبدئي بمثابة تصويت بمنح الثقة على سياساتهم، وأعطى ذلك الفرصة لكبار التكنوقراط  للقول إن ذلك في شهادة على كونهم أحسنوا التفاوض مع المؤسسة المالية الدولية حول مشروع الاتفاقية.

استغرق مسار التفاوض أكثر من 15 شهرا. وقد جعل طول المدة البعض يشك في احتمال التوصل إلى اتفاق بين الطرفين في وقت كانت فيه الأزمة المالية تتفاقم وكانت انعكاساتها الاجتماعية تتوسع.

◘ معظم الأحزاب المعارِضة لسعيد، ومن بينها الإسلاميون المنضوون تحت لواء حركة النهضة وغرماؤهم في الحزب الدستوري الحر، يركزون في خطابهم على تدهور المستوى المعيشي للمواطنين

 هذا القرض في حد ذاته أقل بقدر كبير من احتياجات تونس المالية. وحتى بعد إتمام الإجراءات اللازمة، فهو لن يقلص كثيرا من عجز الموازنة الذي سوف يبلغ في نهاية العام نسبة 9.7 في المئة من الناتج القومي الخام أو من الدين العمومي الذي يقدر بحوالي 40 مليار دولار.

ولكن السلطات تأمل أن يفتح الاتفاق مع صندوق النقد الباب أمام اتفاقيات قروض ثنائية ويكون فاتحة للانتعاشة الاقتصادية التي تحتاجها تونس.

ولكن نجاح البلاد في الحصول على مثل تلك القروض سيكون رهن قدرة دبلوماسيتها على إقناع شركاء تونس التقليديين في الغرب والمانحين المحتملين من الدول النفطية في المنطقة بأن يهبّوا لمساعدتها.

وبعد المصادقة النهائية على الاتفاقية من قبل المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي في ديسمبر القادم، ستكون الدفوعات مبدئيا على ثمانية أقساط كل قسط منها بقيمة 250 مليون دولار بداية من يناير القادم.

وتسبق الدفوعات مراجعات دورية لتقدم مسار الإصلاحات في تونس وذلك طبقا للتراتيب التي يتبعها الصندوق في مثل هذه الاتفاقيات.    

ولكنه في ما يخص تونس بالذات يبدو أن هناك قدرا إضافيا من الحذر يعود إلى عدم قدرة البلاد في السنوات الماضية على الإيفاء بتعهداتها في ما يخص الإصلاحات التي كان من المفروض إدخالها مقابل القروض التي حصلت عليها، غير أن الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2011 اختارت عوضا عن ذلك المضي قدما في سياسة الإنفاق العمومي دون قيود وتعيين أعداد متزايدة من الموظفين في الإدارات الحكومية. وكان تبريرها أنه ليس لها خيار آخر لاحتواء الاحتجاجات الاجتماعية بالرغم من الكلفة الاقتصادية المرتفعة لقراراتها تلك.

تحتاج تونس اليوم إلى حد أدنى من الاستقرار السياسي والاجتماعي إذا ما أرادت تنفيذ برنامج للإصلاحات من شأنه “إطلاق الإمكانات التونسية من أجل تحقيق نمو اقتصادي شامل وغني بالوظائف”، حسب تعبير جهاد أزعور مدير شؤون إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي في ختام زيارة إلى تونس في يونيو الماضي.

بوكس

ليس هناك جدل في تونس بخصوص دعوات صندوق النقد إلى فك القيود التي تعيق المبادرة الفردية وتشجع الاستثمار وتحقيق قدر أكبر من العدالة الجبائية. ولكن الأمر ليس كذلك بخصوص دعوتها للتخفيض من الإنفاق العمومي، بما في ذلك رواتب الموظفين الحكوميين وما تراه “تبذيرا واسعا للموارد في مجال دعم الأسعار”.

يتخوف الكثيرون من أن تؤدي مثل هذه الإجراءات إلى زيادة في معدلات البطالة والتضخم، في وقت يشتكي فيه معظم التونسيين من تدهور مستوى المعيشة. ويخشى آخرون أن تواجه الإدارات الحكومية مصاعب في إرساء أسس منظومة جديدة لدعم الأسعار وتقليص الوظائف الحكومية في الآجال المطلوبة.

وللتقليل من هذه المخاوف من المتوقع أن يتضمن برنامج الإصلاحات التي تمت مناقشتها إجراءات ترمي إلى حماية الشرائح الهشة من المجتمع وذلك بتوسيع شبكة الضمان الاجتماعي وتنفيذ جملة من الإجراءات الجديدة مثل الدفوعات المالية المباشرة لمستحقيها. 

بشكل عام، يرى الخبير الاقتصادي التونسي راضي المدب أن برنامج الإصلاحات قد يكون “صعب الإنجاز من المنظورين الاجتماعي والسياسي”.

ويشير الملاحظون في تونس إلى أن بعض المصاعب قد تتأتى من الاعتراض المتوقع من الاتحاد التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد) على جانب من الإصلاحات.

وكانت النقابات وافقت بعد مفاوضات مع الحكومة الصيف الماضي على زيادة محدودة في الأجور يقل مستواها عن مستوى التطور المتوقع في نسبة التضخم خلال الفترة القادمة، مما جعل قيادتها تواجه انتقادات من قبل قواعدها النقابية. وليس من المتوقع اليوم أن تقبل بسهولة تقديم تنازلات جديدة مماثلة للحكومة.

ومن المفهوم تماما لماذا يطالب صندوق النقد الحكومة “بتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العمومي”، وذلك اعتبارا للعجز المالي الذي تواجهه المؤسسات العمومية بما فيها تلك التي تتمتع باحتكار للأنشطة المتعلقة بها مثل شركة التبغ أو المؤسستين الوطنيتين للكهرباء والماء.

وقد كشفت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا مؤخرا عن أن المباحثات مع المسؤولين التونسيين تناولت احتمال خوصصة “بعض المؤسسات المملوكة للدولة”.

أثار ذلك حفيظة النقابات التي دون موافقتها سيُصبِح فتح المجال أمام القطاع الخاص للمشاركة في امتلاك أسهم في الشركات الحكومية أو التفكير في خوصصة بعض هذه المؤسسات مصدرا محتملا لمطبات اجتماعية قادمة.

وإضافة إلى ممانعة النقابات فإن العائق الثاني قد يكون مرتبطا بالوضع السياسي في البلاد.

فعدم وجود مسار تشاركي يضم الأحزاب السياسية والمجتمع المدني سيجعل تحقيق إجماع وطني حول الإصلاحات المدعومة من صندوق النقد أمرا صعب المنال.

ويبقى العامل السياسي عاملا أساسيا حتى إن لم يكن دوره واضحا للوهلة الأولى، في وقت يواصل فيه الرئيس قيس سعيد السير في منهاجه الانفرادي نحو إعادة تصميم النظام السياسي للبلاد حسب رؤيته الشخصية.

وإن كانت الموافقة النهائية للمجلس التنفيذي للصندوق على الاتفاق مع تونس مسألة مفروغا منها تقريبا فإن تأجيل ذلك القرار لمدة شهرين يمنح المؤسسة المالية الدولية مهلة لتقييم تطور الوضع السياسي في علاقة بالانتخابات التشريعية المقررة ليوم السابع عشر من ديسمبر.

فظروف الاقتراع ونتائجه ونسبة المشاركة فيه سوف تعطي إشارات واضحة على مآل المسار السياسي.

اليوم هناك أحزاب عديدة أعلنت نيتها مقاطعة الانتخابات فيما تسود السرديات الشعبوية المعترك السياسي.

ومعظم الأحزاب المعارِضة لسعيد، ومن بينها الإسلاميون المنضوون تحت لواء حركة النهضة وغرماؤهم في الحزب الدستوري الحر، يركزون في خطابهم على تدهور المستوى المعيشي للمواطنين. وهم يطالبون الحكومة بكشف حقيقة الأزمة الاقتصادية وإعطاء تفاصيل أكبر عن الإجراءات التقشفية المزمع وضعها حيز التنفيذ.

◘ تونس تحتاج اليوم إلى حد أدنى من الاستقرار السياسي والاجتماعي إذا ما أرادت تنفيذ برنامج للإصلاحات من شأنه "إطلاق الإمكانات التونسية من أجل تحقيق نمو اقتصادي شامل"

وإذا لم يسع سعيد للتوصل إلى أرضية براغماتية وسطى مع معارضيه فإنه قد يواجه تحالفا بين أحزاب المعارضة السياسية والنقابات العمالية ضد الإصلاحات الاقتصادية التي يدعمها صندوق النقد.

ومن المخاطر الأخرى المحدقة أن تفقد الطبقة السياسية بكافة توجهاتها هامش التحرك والمناورة إن وجدت نفسها فجأة أسيرة الاحتجاجات العفوية في البلاد ضد الإجراءات التقشفية، على شاكلة الحركات الاحتجاجية التي شهدتها بعض الأحياء الفقيرة للعاصمة مؤخرا.

إضافة إلى ذلك فإن سعيد، الذي يعارض مبدئيا أي تدابير تقشفية يمكن أن تضر بمصالح الطبقات الفقيرة، لا ينتظر منه أن يقف مدافعا بشراسة عن الإصلاحات خاصة في حالة اندلاع اضطرابات  اجتماعية واسعة.

واجتنابا لمثل هذه السيناريوهات تحتاج الحكومة ويحتاج رئيس الجمهورية إلى تبني مشروع الإصلاحات الاقتصادية بشكل واضح والعمل على إقناع الرأي العام بجدوى التضحيات التي يعنيها ذلك وكذلك تحفيز الطبقة السياسية على مساندة المسار.

في هذا الخضم تجد تونس نفسها في مفترق طرق: إما أن تبقى رهينة انقساماتها السياسية أو أن تبدأ السير على درب الإصلاح الاقتصادي بما يعكس إمكانياتها وقدراتها ويخرجها من مستنقع الأزمة التي دامت أكثر من اللزوم.

9