رهاب الإسلام، الفرع والجذع والجذور في الشجرة

معركة الإسلام بعد التحرر من ربقة الاستعمار كان يتعين أن تتجه إلى الاعمار إلا أن شيوخ الفقه نجحوا فقط في إثارة الفتن فانشغلوا بالصغائر وتركوا الكبائر لأسباب جوهرها ممالأة الطغيان والاستبداد.
الخميس 2022/02/10
صورة مشوهة عن الإسلام

رهاب الإسلام، أو “الاسلاموفوبيا”، شجرة خبيثة، فروعها في الغرب، ولكن جذعها وجذورها في الشرق، والمسلمون هم الذين يتكفلون بسقيها ورعايتها.

لقد أتيح للإسلام أن يتقدم في الغرب، وأن يُعاد النظر فيه ببطء من جانب الثقافة الليبرالية الغربية قبل أن يحدث انكفاء سريع بسبب ما فشلنا نحن في تقديمه على نحو يتلاءم مع حقيقته.

الكنسية الغربية، وهي كيان لا علاقة له بالكنيسة المسيحية الشرقية، كان يهمها أن تحافظ على النظرة الصليبية إلى الإسلام، وأن تجعلها في خدمة الدوافع الاستعمارية الغربية. وهو ما وفر لها وللدول الاستعمارية مصلحة مشتركة في تشويه الإسلام ومعاداته. إلا أن مسلمي العهود المعاصرة، فشلوا في أن يلتقطوا المفارقة في تلك المصلحة المشتركة. كما فشلوا في أن يحافظوا على صورة الإسلام التي انتصرت على الصليبية الغربية. كما فشلوا في أن يعيدوا بناء علاقاتهم مع الدول الاستعمارية من دون أن يحشروا الإسلام كعدو حتى بعد نجاح حركات الاستقلال الوطني. ولكن فشلهم الأهم ظل يكمن في علاقتهم هم بالإسلام.

الإسلاموفوبيا، كما عادت نصرت غني الوزيرة السابقة في حكومة المحافظين البريطانيين لتنفخ الرماد عن جمراتها من جديد، ليست من دون أسس عنصرية. وهي غير منفصلة قطعا عن أصولها الصليبية. كما أنها أداة مفضلة لليمين الشعبوي الغربي للتمايز الانتخابي عن يسار منشغل بقضايا اجتماعية أخرى. إلا أن هذا كله ما كان ليكتسب الزخم لولا صناعة الإرهاب التي ظل المسلمون ينتجونها، ليس في مدارسهم الفقهية وحدها، وإنما في حياتهم العامة أيضا.

هناك أسباب كثيرة لمعاداة “الطبائع” الاستعمارية الغربية، ولكنك لا تحشر الإسلام في وسطها من دون أن تعود لتبعث الروح في الثقافة العنصرية والصليبية الغربية. هذا نوع تلقائي تقريبا من أثر الفعل ورد الفعل.

معركة الإسلام، بعد التحرر من ربقة الاستعمار كان يتعين أن تتجه إلى الإعمار؛ إعمار النفس، وإعمار الأوطان. إلا أن شيوخ الفقه في أوطاننا نجحوا فقط في إثارة الفتن، فانشغلوا بالصغائر وتركوا الكبائر، لأسباب جوهرها ممالأة الطغيان والاستبداد أو الخوف منه.

ليس مطلوبا من المجتمعات والثقافات الأخرى أن تفهم الإسلام على نحو ما يتناسب مع أسسه وقيمه إذا كان المسلمون أنفسهم لا يفعلون ذلك

الإسلام الذي كان ينبغي أن يتقدم، في مجتمعاته على الأقل قبل باقي العالم، كدين عدالة ومساواة وحقوق مدنية، ما كان من اللائق أن يتغافل عن قضايا الفقر والفساد وغياب العدالة الاجتماعية، وغيرها من مظاهر الفشل السياسي والاقتصادي. بل ما كان من الجائز أن يتوجه لمعاداة الغرب قبل أن يعالج علاته الخاصة، وأمراضه الاجتماعية والاقتصادية التي ظلت، تحت إداراتنا الفاشلة نحن، تخدم التطلعات الاستعمارية.

الكثيرون، قبل اندلاع آفة الإرهاب الجديدة، يعرفون بماذا كانت تنشغل فتاوى شيوخ الإفتاء من ترهات، من “إرضاع الكبير” إلى “تحريم الزلابية” وتكفير الطماطم أو مجرد النظر إلى الخيار. حتى جاء من يُكفّر “المجون والفكاهة والضحك وإضاعة الوقت بغير فائدة” من أعلى مراكز الإفتاء في عالمنا، وذلك بينما كان الغزاة يطأون أرضنا من كل اتجاه، وبينما كانت مظاهر الفقر والأمية والبطالة وانتهاكات الحقوق وأعمال التنكيل الجسدي في السجون تسود في الكثير من أرجاء العالم الإسلامي.

ولم يكن هناك بين رجال الدين، الذين قدموا أنفسهم على أنهم حفظة الدين، من يقدم “خطبة جمعة” وهو يسرد أي أرقام أو معدلات اقتصادية لكي ينبه المجتمع والسلطات إلى المخاطر التي تنتظر الجميع.

التشوهات التي جعلت من الفقر والفساد والبطالة ظاهرة عامة، هي التي فتحت الأبواب أمام بروز الإرهاب كظاهرة قادرة على استقطاب اليائسين.

وها أن مجتمعاتنا تدفع شبابها إلى البحث عن سبيل للهرب منها بسبب تلك التشوهات. أو تدفعهم إلى الالتحاق بتنظيمات الإرهاب، أو لتُبقي القراءة المتطرفة لتأويلات النصوص المقدسة، لتكون هي المعيار.

لقد جاز لي، كما لغيري، أن نتساءل غير ذي مرة: عندما تغيب العدالة في المجتمع، كم يبقى من الإسلام؟ وعندما تتحول الطائفية إلى هوية بديلة، كم يبقى من الإسلام؟ وعندما يتذابح المسلمون ويلقون بجثث بعضهم بعضا على قارعات الطرق، فكم يبقى من قيم الرحمة في الإسلام؟ عندما يتواطأ شيوخ وآيات الإسلام مع المحتلين والغزاة، وعندما يتسترون على جرائم السلطات وانتهاكاتها للقانون فكم يبقى من الإسلام في نظر الضحايا؟ وكم يبقى من الإسلام عندما تتحول بعض المدن إلى خراب وتهدم المنازل على رؤوس أهاليها، لكي تفرض بعض ميليشيات الإسلام إرادتها؟ وكم يبقى من الإسلام عندما تختطف أحزاب وجماعات مسلحة باسم الإسلام مجتمعات ودولا بأسرها؟

والإسلام دين مودة وتراحم. فهل علاقات المسلمين مع بعضهم البعض أفضل من علاقاتهم مع غيرهم؟ وهل يعرفون حتى كيف يعيشون في جوار بعضهم البعض بأمن وسلام؟ وهل إذا وجدت بينهم تجارة يتعاملون فيها مثلما يتعاملون مع الغريب؟ وهل يتبادلون المشورة مع بعضهم مثلما يصيخون السمع لأوامر وتوجيهات الأسياد؟ وهل يشدون أزر بعضهم البعض، مثلما يشدون أزرهم ضد بعضهم البعض؟ أم هل أدلكم على حروب ضد مسلمين كان مسلمون هم طلائع الغزاة فيها؟

الإسلام دين مودة وتراحم. فهل علاقات المسلمين مع بعضهم البعض أفضل من علاقاتهم مع غيرهم؟

وما كان ثورة ضد الجهل، صار هو نفسه يُتخذ ستارا لتعميم الجهل. وما كان دافعا لطلب العلم والمعرفة، صار دافعا للامتناع عنهما وللخوف منهما، ولنكران إنجازاتهما. وما كان نقضا للعبودية والقهر وانتهاك الحقوق، صار يُستخدم لتقديم الذرائع والمبررات لأنواع جديدة من العبودية والقهر وانتهاك الحقوق.

الإرهاب ليس نبتا شيطانيا من زراعة الاستعمار. إنه نبت شيطاني من زراعتنا نحن. ونحن الذين سقيناه. وهو عندما يتحول إلى خطر يهدد الاستقرار والأمن في بلداننا، ويتمدد في غيرها، فليس كثيرا أن يوفر الدوافع للخوف منه، ولإحاطته بنظرة شديدة السلبية. فإذا ما امتزجت تلك النظرة بالخوف وبالعنصرية، فإن "الإسلاموفوبيا" سرعان ما سوف تبدو ظاهرة مقبولة أو يمكن التسامح معها، كلما أمكنها أن تفلت من معايير “الصواب السياسي” التي تتغطى بها الحكومات الغربية.

ليس مطلوبا من المجتمعات والثقافات الأخرى أن تفهم الإسلام على نحو ما يتناسب مع أسسه وقيمه إذا كان المسلمون أنفسهم لا يفعلون ذلك.

نصرت غني فقدت وظيفتها في حكومة المحافظين بسبب “الإسلاموفوبيا”، ولكنها وجدت في إطار معايير “الصواب السياسي” ما يجبر حكومة بوريس جونسون على إجراء تحقيق، وربما على أخذها بالإنصاف.

كثيرون آخرون يتعرضون لمزيج من مظاهر العنصرية تحت ستار كراهية المسلمين، فيدفعون حياتهم ثمنا لها. ولكن الحقيقة أن جذع الشجرة موجود عندنا نحن. وهو جذع ينتج نوعا من كراهية مضادة، أو عنصرية مضادة للغرب، يجد له تبريرات في فقه الإسلام نفسه.

لست في وارد أن أسرد حشدا من آيات القرآن الكريم التي تحرم قتل النفس بغير حق، والتي توكل الحساب بين كل الأجناس والأديان إلى رب الحساب، والتي تحض على قبول التعايش بين الأديان، والتي تساوي بين الأنبياء، لأن هذا كله مقروء ومعروف ومتداول. إلا أن غلبة القراءات المتطرفة ظلت تستمد نسوغها من غلبة الفقر، وتراجع مستويات التعليم، ومن انشغال رجال الدين بالترهات والصغائر، لكي يتواطأوا مع الكبائر، ومن مظاهر التعسف الاجتماعي الذي نمارسه ضد النساء والأطفال، ومن تراجع قيمة المعرفة العلمية، ومن تفشي الجهل والأمية.

تشوهات بنيوية في الاقتصاد والثقافة والتعليم، كما في غياب قيم العدل واحترام القانون، هي التي تصنع الإرهاب وتبقي الأرض خصبة له. فكيف لا يبقى معها “رهاب الإسلام”؟

ذاك هو الأصل. إنه جذور الشجرة وجذعها. وما “الإسلاموفوبيا” إلا فرع لها، له ما يصده في الغرب، ولكن ليس لدى الجذع ما يقتلعه.

8