رمضان بين "هلالين"
أعلنت المملكة العربية السعودية (السنية)، ومعها أغلب الدول العربية الأخرى، أن رؤية هلال شهر رمضان قد تحققت، وعليه فإن الاثنين هو أول أيام رمضان.
ووفق ما اعتدنا عليه أعلنت المراجع الشيعية في هذه الدول ذاتها، مع إيران، أن الرؤية لم تتحقق، وعليه فإن الثلاثاء هو أول أيام رمضان. ونعذر دول المغرب العربي وأوروبا وأميركا التي لم تتحقق فيها الرؤية، ربما بسبب الجغرافيا، وليس لرغبتها في المخالفة.
إذن فإن للمسلمين في منطقتنا هلالين، الأول يظهر في السعوية، والثاني يظهر في إيران وفي مستعمراتها العربيات المتأسلمة.
ومؤكد أن هذا لم يكن بفعل فاعل أميركي أو إسرائيلي خبيث استخدم ألاعيبه التكنولوجية ليجعل الهلال يظهر هنا ولا يظهر هناك، وذلك لأن المعركة بين الهلالين المسلمين ليست وليدة هذا الرمضان، ولا من نتائج صِدام الجبهات التي تم تسخينها في السنوات الأخيرة، في العراق وسوريا واليمن والبحرين، بل هي عتيقة متوارثة، عمرها من عمر العراك التاريخي بين الذين بايعوا عثمان بن عفان على الخلافة، وبين الذين تشيعوا للإمام علي بن أبي طالب، قبل ألف وأربعمئة عام.
|
ومن يومها وأبيض السنة لدى الشيعة أسود، وأخضر الشيعة يابس لدى السنة، والاصطدامات والانتكاسات والخلافات بينهما، لا تخف ولا تهدأ، وقد تتحول، في بعض حالاتها، إلى معارك تكسير رؤوس، وقلع أعين، وحرق أسرى وهم أحياء.
ولو انتصر أحد الفريقين انتصارا كاملا على عدوه، وانهزم الآخر هزيمة كاملة، لقُضي الأمر، وتنفست هذه الأمة الصعداء، ولأصبحنا إما دولة سنية خالصة، أو شيعية خـالصة، ولارتحنا ونجونا من خراب البيوت.
ويؤكد تاريخنا الطويل أن المسلمين طيلة أربعة عشر قرنا في صراع الهلالين الذي يتجدد في كل رمضان، وفي كل حج، وكل عيد.
حتى أن مواطنا سنيا قال لأخيه الشيعي “غدا ستقوم القيامة عندنا”، فرد الشيعي على الفور، “وعندنا ستقوم بعد غد”.
وفي خضم دخان المعارك الدامية المشتعلة بين الهلالين تفرح القلوب والنفوس النقية وهي ترى مساحات واسعة جدا متحررة ورافضة لصراع المتعصبين في الطائفتين، خصوصا في الأجيال الجديدة المتنورة المناضلة من أجل دفن جهالة الماضي، وزراعة الاعتدال، والخروج من سطوة الجهل والخرافة والظلام، ومسابقة الشعوب المتحضرة، ودخول القرن الحادي والعشرين.
بالمقابل لا بد من القول إن جراثيم التعصب الطائفي ليست وقفا على واحدة من الطائفتين. ففي كل منهما مئات الملايين من البشر غارقة في بغضائها وعصبيتها وضلالها. والمحزن أن مفاهيم التعصّب الأعمى ليست من نصيب الأميين البسطاء الذين لا يقرأون ولا يكتبون، ولا يعلمون عن الإسلام سوى أن كل موت شهادة، وطريق معبد ومنور إلى الحور العين والخمر والتين والزيتون. بل إن الكثير من علمائهم وأئمتهم ووعاظهم كانوا ومازالوا يرتزقون من صناعة هذا الضلال المبين.
و“داعش”، هذا النبت السني الصحراوي السام، ليس اختراعا جديدا في عالم الإرهاب المتغطي بالإسلام. فقد سبقته حركات سرية وعلنية عديدة تفننت في استخدم الخنجر والسكين والخازوق لتحقيق أهداف سياسية لا علاقة لها بطائفة ولا بدين.
والذي يُحزن كثيرا أن إيران الفارسية المتعصبة لفارسيتها كانت، منذ قرون، هي الموطنَ الأول والدائم لفرق الإرهاب المتأسلمة، من أيام الخلافة الراشدية، والدولتين، الأموية والعباسية، وبالأخص فرق الحشاشين والإسماعيليين والقرامطة، وإلى اليوم.
ففي أوائل القرن السابع الميلادي، ظهر الإسلام، وباشر حروبه الشهيرة لنشر رايته في البلاد المجاورة، وكانت أولى فتوحاته وأهمها على الإطلاق، خارج الجزيرة العربية، معارك فتح العراق، والانطلاق منه نحو الشرق، واكتساح أراضي الدولة الفارسية بالكامل، وهزيمة إمبراطور الفرس يزدجرد الثالث في معركة القادسية.
وحين سُبيت بناته الثلاث وجيء بهن إلى الخليفة عمر بن الخطاب لتوزيعهن على قادة جيوشه، نهض الإمام علي معترضا، ومقترحا إكرامهن. وقد اتخذت هذه الحادثة التي كان يمكن أن تكون عابرة، وأن ينساها التاريخ كما نسي الأكبر منها والأخطر، بداية لحروب مذهبية دامية جرت على عباد الله، على مدى ما يقرب من أربعة عشر قرنا من الزمان، أحزانا ومآتم لم تتوقف، ولن تنتهي.
أما من أسلم من الفرس، وحسن إسلامه، فقد أذاب الإسلام في نفسه تلك النعرة الثأرية الفارسية ضد أشقائه الفاتحين العرب المسلمين. لكنّ كثيرين منهم لم يستطع الدين الجديد أن يغسل قلوبهم من أحقادها تلك.
وقد دأبت الحركات القومية الفارسية المتعصبة على ارتداء ثياب الحمية والتقوى، والتظاهر بالثورة على ظلم الخلفاء وعُمالهم في إمارات بلاد فارس، والاستظلال بدعاةٍ من آل البيت.
وكما ترون. مازال المواطن الشيعي العادي يقدس أئمةً بشرا مثله، ولكنه يتمادى ويبالغ في شتم نساء نبيه وأصحابه، ويظن أن هذه هي التقوى والديانة، حتى وهو يرى خصومه السنة يقدسون، مثله، آل البيت، ولا يشتمون أحدا منهم، بل يُكفرون من يمس ذكرهم بسوء.
كنا في جدة نعمل في إذاعة المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين، وليتنا ما فعلنا، وكان أغلب العاملين فيها عراقيين شيعة. وفي أحد مواسم الحج طلب أحد زملائنا أن يحج مع كامل أسرته، على نفقة السعودية السنية (الوهابية) طبعا. وبعد عودته من الحج فوجئنا بشقيقة زوجته تبكي بمرارة، وتقول إن حجها أصبح باطلا. وحين سألناها عن سبب بطلانه قالت لقد قرأت سورة الفاتحة على قبر عمر، دون أن أدري.
ومؤكد أنها كانت، وهي في السعودية، ترى الهلال في إيران، ولا تراه في السعودية. وأكبر الظن أنها لا تزال كذلك، حتى في عصرنا الجديد، عصر السياحة في عالم النجوم.
كاتب عراقي