رمضان السودانيين موحش وراء أبواب المنازل

لا يعرف السودانيون كيف يتناولون إفطار رمضان هذا العام داخل منازلهم، فلذة الطعام لا تكتمل إلا بحضور كافة الجيران والأهل وعابري سبيل في الساحات والطرقات، وهي عادة يفتخر فيها السودانيون بكرمهم.
الخرطوم - يحافظ السودانيون في شهر رمضان على عاداتهم الرمضانية التي ينتظرونها كل عام، فـ”الضرا”، وهو أعرق تقليد للإفطار الجماعي يتميز به السودان عن بقية الدول الأخرى كان ينظم حتى في أحلك الظروف الاقتصادية التي عاشها السودانيون، لكنه يغيب عنهم هذه السنة بسبب الحجر الصحي، ويفسد مزاجا ورثوه عن الأجداد.
يقول محمد حاج الزين “الإفطار الجماعي أو الضرا من مآثر رمضان في كل أنحاء السودان، إذ يحرص الناس على تناول إفطار رمضان خارج البيوت، هذه عادة اجتماعية ورثناها من أجدادنا، إنها تشير إلى تكافل السودانيين وتماسكهم وكرمهم”. والضرا هو المكان الذي يجتمع فيه الناس حول موائد الإفطار الجماعية، ويؤدون فيه صلاة المغرب في جماعة، وغالبا ما يكون التجمع في الشوارع التي هي مفترق طرق عديدة أو الساحات المكشوفة، حتى تتسنى لهم دعوة المّارة وعابري الطريق الذين أدركهم وقت الإفطار خارج منازلهم لتناوله مع الجماعة.
وتتجمع الأسر السودانية أيضا في ما يسمى “حوش الديوان”، وهو مجلس كبير للعائلة تتجمع فيه العائلات لتناول وجبة الإفطار، وعادة ما يكون عند كبير العائلة، فيما يفطر عدد كبير من السودانيين في ما يعرف بـ”المربوع” وهو مكان مربع يجمع أفراد الأسر من بنايات متعددة، حيث يحضرون الطعام ويتناولون الإفطار مع بعضهم البعض.وقبل حلول شهر رمضان بعدة أيام يقوم أطفال المنطقة أو الحي بتنظيف وتزيين مكان الفطور بكل فرح وهمة، ويتبارون في استعراض مواهبهم في تصميم أشكال هياكل المساجد التي تتكون من الطوب والحجارة، ليكون بمثابة مكان محدد لهم خلال أيام الشهر الصيام، ويتناولون فيه وجبة الإفطار في جماعات ومن ثم يصلون المغرب.
هذه العادة هي الوجه المشرق لرمضان في السودان، إذ يأتي السودانيون بإفطارهم حسب استطاعتهم ويفترشون الحصر وعلى قارعة الطريق، ويجبرون المارة على التوقف وتناول الإفطار الرمضاني معهم.
يقول محجوب حمدان من الخرطوم “الضرا عادة سودانية جميلة تجسد التكافل والتراحم بين أبناء الشعب السوداني، فكلنا ينتظر هذا الشهر بفارغ الصبر لنخرج للضرا ونفطر مع الجيران”.
وللضرا ميزات كثيرة في رمضان، فهو يقوي الروابط بين الجيران والأهل، فيتفقد بعضهم البعض ويسألون عمن يغيب عنهم، كما تتم فيه مناقشة بعض المواضيع الاجتماعية التي تهم أهالي المنطقة. وأضاف حمدان أن “إفطار السوداني داخل منزله أمر غير مقبول اجتماعيا، ويشير إلى أن هذا الشخص بخيل أو ضعيف العلاقات الاجتماعية”.
ويتنافس السودانيون على الأشخاص المارين، إذ يرغب كل واحد في دعوة أكبر عدد من الناس ليتناولوا الإفطار من مائدته حتى يكسب مزيدا من الأجر ويثبت كرمه الفياض.
ويقول حمدان “رغم أن عادة الضرا نادرة في الأحياء الراقية من المدن المكتظة، إلا أنها تطورت في الأحياء الشعبية والمناطق الأخرى، بعد أن دخلت الموائد الجماعية التي تقيمها بعض الجمعيات ورجال الأعمال في ساحات المستشفيات والأسواق والطرقات السريعة”.
وللسودانيين عادة غريبة خاصة في المناطق الريفية خلال شهر الصيام، إذ يقومون بربط العمّة من الأطراف وشدها وسط الشارع، حيث يمسك إثنان طرفي العمّة لوقف العربات للإفطار لأن بعض السائقين لا يستجيبون للدعوة للإفطار في الشوارع، لكنهم عندما يرون العمّة مشدودة أمامهم من قبل الأهالي ينزلون احتراما لعاداتهم وتقاليدهم في الدعوة لإفطار الصائم.
وللمرة الأولى منذ عقود اختفى أعرق تقليد للإفطار الجماعي في الخرطوم وبعض المدن الأخرى، نتيجة الحجر الصحي ومنع الجولان اللذين فرضهما انتشار فايروس كورونا.
ويعيش السودان تحت حالة الطوارئ الصحية، والتي قضت بإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية، ووقف الدراسة في المراحل كافة لمنع انتشار كورونا.
وخرق العشرات من السودانيين في أول أيام رمضان في مناطق متفرقة من العاصمة الخرطوم قرار السلطات بعدم التجمع، لكنهم عادوا والتزموا بالحجر وخاصة في العاصمة والمدن الكبيرة.
ويؤكد خبراء الصحة أن موائد الإفطار الجماعية، التي اعتادها السودانيون، تشكل خطرا كبيرا على الناس في ظل جائحة كورونا، لأنها توفر بيئة خصبة لانتقال الفايروس.
هذه الإجراءات تركت موجة من الاستياء والحزن في نفوس السودانيين، يقول أحمد إدريس من سكان منطقة االخوجلاب شمال الخرطوم “تناول وجبة الإفطار في البيت حزين، فنحن لم نتعود على ذلك حتى في أحلك الأزمات الاقتصادية التي مر بها السودان، فايروس كورونا حرمنا من الثواب الذي كنا نسعى إليه في موائد الضرا التي نستعد لها طيلة السنة”.
وعند غروب الشمس وقبل الإفطار، يقوم الشباب بتجهيز المكان المعد للإفطار، وذلك بأن يفرشوه بما تيسر من مفروشات، وقبيل أذان المغرب يجلس الرجال، بينما ينهمك الشبان في إحضار الصواني التي تحمل طعام الإفطار.
ويقدم السودانيون ما استطاعوا من الطعام، أولها أنواع من العصائر البلدية، يأتي في مقدمتها الحلو مر، بجانب العصيدة التي يضاف لها الويكا وهي اللحم المجفف والمطحون، كما تضم المائدة السودانية سلطة الروبر والتي تتكوّن من الخيار وقطع صغيرة من الجزر يضاف إليه الزبادي، بالإضافة إلى التمر والبليلة بأنواعها.
وبعد أن فرضت السلطات السودانية حظرا شاملا على ولاية الخرطوم منذ السبت 18 أبريل الجاري، ولفترة ثلاثة أسابيع للحد من انتشار الفايروس، غابت هذه التجمعات في الساحات والأحياء.
قال محمود موسى “نحن مجبرون هذه السنة على أن نتنازل عن الإفطار الرمضاني في الضرا لأول مرة في تاريخنا، وهو إجراء صحي خوفا من الوباء، لكن ذلك لا يعني أن تغيب مثل هذه العادات عن السودان في السنوات القادمة”.
وأضاف “سنشتاق إلى الجيران والأقارب الذين اعتدنا أن نراهم في هذه المناسبة، كما سنشتاق إلى الضيوف العابرين الذين كانوا يؤنسوننا عند الإفطار، وهم هذه السنة نادرون”.
السودانيون لم يستوعبوا التنازل عن الضرا والتزامهم بالإفطار في البيت، رغم أنهم يؤكدون أنه يمكنهم تبادل الطعام بين الجيران، كما يمكنهم إكرام الضيوف، إلا أن ذلك سيكون دون الأجواء الصاخبة التي تشبه العرس اليومي.