ركام من وسائل الإعلام يديره رئيس تحرير واحد في الجزائر

يكاد يكون الخطاب نفسه الذي يمرر في وسائل الإعلام العمومية والخاصة على حد السواء في الجزائر، ليبدو الأمر وكأن رئيس تحرير واحدا هو من يدير التوجهات ويخط السياسات في كلا المنبرين، وضمن إطار معين لا يخرج عما تسطره السلطة السياسية، وهذا الوضع أدى إلى غياب الموضوعية والمهنية في المنظومة الإعلامية الجزائرية.
الجزائر - فقد الإعلام الجزائري الكثير من ثوابته وخصائصه الطبيعية، فلم يعد المتابع يميز بين العشرات من الصحف والمواقع والفضائيات بخط تحريري معين، أو مقال رأي دسم، ولا بين ما هو حكومي أو خاص، فتكفي مطالعة صحيفة أو موقع أو متابعة ما يقدمه تلفزيون واحد لفهم باقي المشهد، لأن رئيس تحرير واحدا يدير ركاما من وسائل إعلام باتت لا تحظى حتى بثقة مالكيها أو عمالها، إلا بما تدره من عائدات أو رواتب.
وتراوحت التغطية الإعلامية لقرار مجموعة بريكس بالإعلان عن قبول عضوية دول جديدة استثنت منها الجزائر، في وسائل الإعلام الجزائرية، بين تقارير مقتضبة في بعض المواقع الإخبارية والنسخ الإلكترونية للصحف الورقية، بينما استمرت التلفزيونات في بث شبكة برامجها العادية بين برامج وحصص وأفلام ومسلسلات.
وتشابهت التغطيات المتعلقة بالحدث الذي شكل صدمة للجزائريين ترجمت في ردود الفعل الواسعة التي عبرت عنها شبكات التواصل الاجتماعي أكثر من وسائل الإعلام المذكورة، ليس لأن مجموعة بريكس تجاهلت الطلب الجزائري، بل لأن سمعة وصورة البلد باتتا في خطر في ظل صمت الإعلام وتدجينه من طرف السلطة، إلى
درجة أن صار مدير مجمع إعلامي يطلب أمام الملأ من رئيس الجمهورية التوجيهات اللازمة للتعاطي مع الملفات الحساسة.
وقال صحافي جزائري فضل عدم الكشف عن هويته إن “الصحافيين باتوا مثل موظفي الإدارات الحكومية، ملزمين باحترام وقت الخروج والدخول إلى مبنى الوسيلة الإعلامية، فلا مجال للمغامرة أو المجازفة بشيء يعصف برزق العائلات، والسقف لا يمكن أن يتعدى حدود ما تبثه وكالة الأنباء الرسمية، لأنها المصدر الوحيد الذي يطمئن له الجميع من مخاوف المساءلة والمتابعة”.
يعيب إعلاميون ابتعدوا عن المهنة عدم محافظة المنظومة الإعلامية على مسافة الأمان اللازمة بينها وبين السلطة
وسجن في السنوات الأخيرة العديد من الصحافيين، لأسباب غير معزولة عن ممارسة النشاط الإعلامي، كما هو الشأن بالنسبة إلى صحافي جريدة “الشروق” الخاصة بلقاسم هوام، بعد نشره تحقيقا حول ما عرف بشحنة التمور المعادة بسبب غياب الشروط الصحية، وبدل فتح تحقيق حول عوامل وأسباب الخلل، اتهم الصحافي بالمساس بالاقتصاد الوطني.
ولا يزال الإعلاميان القاضي إحسان ومصطفى بن جامع يقبعان في السجن بتهم متباينة، لكنها انطلقت من مصدر واحد وهو مواقف سياسية ومتابعة أخبار الاحتجاجات للحراك الشعبي الذي عاشته البلاد.
ويقول متابعون للشأن الإعلامي في الجزائر إن رئيس تحرير واحدا هو من يوجه ويصوب محتوى ركام كبير من وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، وإذ لا أحد يجزم بشكله ومكانه، إلا أن الثابت هو أنه يقبع في زاوية ما من دوائر توزيع الإعلانات الحكومية، ويتحرك وفق خط ممتد بين قيادة الجيش وقصر الرئاسة ووكالة النشر والإشهار.
وتتباهى السلطة الجزائرية عندما تسأل عن الحريات الصحفية في البلاد بترسانة إعلامية قوامها نحو 200 صحيفة ورقية والعشرات من المواقع الإخبارية والتلفزيونات الفضائية، لكن صوتها لا يتعدى حدود الجدران التي تحرر فيها مادتها الإعلامية، ومعظمها يستهلك ملايين الدولارات، بينما مفعوله لا يقارن مع صفحات ناشطة في شبكات التواصل الاجتماعي.
وتلك الدعائم التي تلتهم سنويا ربع مليار دولار في شكل ريع يوزع وفق الولاءات والانتقائية، لا هي سوقت صورة وخطاب السلطة للشارع الجزائري، ولا هي حافظت على مهنيتها، فتحولت إلى عبء يثقل كاهل المجتمع، ويفتقدها لما يستدعي الأمر حضورها في الاستحقاقات الكبرى.
السقف لا يمكن أن يتعدى حدود ما تبثه وكالة الأنباء الرسمية، لأنها المصدر الوحيد الذي يطمئن له الجميع
ويعيب اعلاميون ابتعدوا عن المهنة عدم محافظة المنظومة الإعلامية، خاصة في السنوات الأخيرة، على مسافة الأمان اللازمة بينها وبين السلطة لتبقي أقل ما يمكن من خاصية السلطة الرابعة المضادة للسلط الأخرى، وحملوا المسؤولية بشكل مباشر للسياسات الإعلامية المنتهجة، فبدل تشجعيها على التنوع والمهنية والنقد لكشف العيوب، جرى تدجينها بشكل غير مسبوق عبر سيف الإعلانات الحكومية.
ويقول المتابعون إن هناك وضعا بائسا يعيشه الإعلام الجزائري؛ فعلاوة على الأوضاع الاجتماعية، نتيجة استئثار مجموعة من المحظوظين بعائدات الإعلانات، لم يعد بإمكان الآخرين حتى الاحتجاج على ممارسات تهدد مؤسساتهم وموظفيهم، وأصبح الإعلام آخر شيء تفكر فيه تلك الدعائم، فالاهتمام منصب كله على الريع وعلى شيكات وكالة النشر والإشهار.
ومن يتفحص المشهد الإعلامي الجزائري لا يمكنه التمييز بين وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، أو بين الناقدة والمداهنة، أو بين الموالية والمعارضة، وكانت صحيفة “ليبرتي” الناطقة بالفرنسية الموقوفة بقرار من مالكها رجل الأعمال يسعد ربراب، وصحيفة “الوطن” (El Watan) الناطقة بالفرنسية أيضا، و”الخبر”، آخر المعاقل التي كانت تنتقد فيها السلطة ويحضر بين صفحاتها الرأي الآخر، قبل أن يضيق عليها الخناق وتقترب من الإفلاس، لتظهر السلطة في ثوب المخلص مقابل التنازل عن المهنية والموضوعية التي ارتبطت بها.
وفي الإعلام الجزائري لا يمكن العثور على مقال افتتاحي أو مقال رأي، لأنه لا أحد يجرؤ على قول كلمة قد تنقلب على مؤسسته وتهدد رزقه، والأمر ينسحب على جميع الوسائل الإلكترونية والورقية والسمعية البصرية، ولم تعد المهمة تتعدى حدود العواجل بالأبيض والأحمر تنقل حركات وسكنات رجال السلطة، بينما يغيب صوت المواطن رغم أنها تعتاش من مساهماته ومن أمواله.
ولأن مثل هذا النمط هو الذي يدير الشأن الإعلامي الجزائري، إلى درجة أن صار ناشرون ورقيون وإلكترونيون وفضائيون لا يهمهم منتوجهم الإعلامي، فهم يدركون أنه لا يروق لأي أحد في الجزائر بمن فيهم الملاك، ولذلك يبرز الفراغ في الاستحقاقات الكبرى، ويظهر قصور الإستراتيجيات الإعلامية في مواكبة الأهداف الكبرى، كما كان الشأن مع ملف الانضمام إلى مجموعة بريكس.