رقية مزار: التقنيات الحديثة تفتح آفاقا للإبداع في الفن المفاهيمي

العقل البشري بإبداعه الفني لا يمكن أن يستبدل بالتكنولوجيا.
الثلاثاء 2025/01/07
أجد ذاتي في الفن المفاهيمي

تقدم الفنانة العمانية رقية مزار تجارب فنية جريئة ومبتكرة، تنتمي إلى المدرسة المفاهيمية وتهتم فيها بالبحث في كينونة الإنسان العماني وهويته النفسية والثقافية والاجتماعية انطلاقا من عناصر جغرافية تعيد تشكيلها بحساسية مفرطة تجاه ذكريات طفولتها التي تتقاطع مع ذكريات الكثير من العمانيين، وهي لا تتردد في توظيف التكنولوجيا الحديثة التي ترى أنها تعزز مساحات التعبير والإبداع ضمن هذا التيار الفني.

مسقط - تعرف الفنانة العُمانية رقية مزار باشتغالها على الفن المفاهيمي، حيث تجد فيه فضاء أرحب يثير بداخلها تساؤلات ويمنحها حرية أكبر للتعبير عن أفكارها الفلسفية بالفن، وهي تتناول في المقام الأول الحياة والإنسان وقضاياه الوجودية مِن منظور فكري فلسفي.

وترى هذه الفنانة المفاهيمية أن الفن المفاهيمي فن لديه القدرة على إثارة التساؤلات الأكثر عمقا وأنه محفز للتفكير، ولكونها فنانة متعددة التخصصات في هذا الفن، عرفت بأعمالها في الرسم، التصوير، فهي عادة ما تعمل من خلاله على استكشاف العلاقة بينها وبين المكان الذي تنتمي إليه، فمن خلال أعمالها تبرز تعبيرها الفردي ووجودها ضمن السياق الأوسع لبيئتها ومجتمعها.

مساحة حرة

عمل مستوحى من لحظات تصفيف الشعر
عمل مستوحى من لحظات تصفيف الشعر

عن ماهية الفن المفاهيمي والمحفزات التي جعلتها أكثر قربا من هذا الفن تقول مزار “الفن المفاهيمي بالنسبة لي هو وسيلة للتعبير، وعلاقتي بهذا الفن تتجاوز الشكل والسياقات التي تبدو أكثر تقليدية، فهو بالنسبة لي مساحة حرة تتيح لمخيلتي التركيز على الفكرة والمضمون، خاصة إذا ما أردت الوصف أن الفكرة هي العمل الفني بحد ذاته.”

وتضيف “من بين النقاط التي جذبتني لهذا النوع من الفن، قدرته على إثارة تساؤلات أكثر عمقا كونه محفزا للتفكير، سواء ما يتعلق بي كفنانة أو ما يتعلق بالمتلقِّي نفسه. ربما من أهم المحفزات إحساسي بأن الفن التقليدي أحيانا يقيّدني بأطر معينة، لكن الفن المفاهيمي يمنحني فرصة للتعبير عن شعوري وأفكاري بطريقة أكثر صدقا وتحررا.”

وتتابع “هذا الفن فرصة للتفاعل مع قضايا تتعلق بذات الإنسان وهويته ومجتمعه، وهذا ما جعلني أجد من خلاله ذاتي التواقة إلى اكتشاف المجهول فيه، وهذا النوع من الفن في خصوصيته لا يهدف إلى الإمتاع البصري فقط، بل إلى إيجاد تأثير فكري وعاطفي على المتابع له، وهو ما يجعلني في سياق محيطه الاستثنائي.”

وآخر تجربة للفنانة كانت حدثا فنيا بعنوان “رنين” الذي اهتمت فيه بالثقافة العمانية والمنازل الأثرية القديمة وأعادت تقديمها برؤية فنية معاصرة، وهي تقول عنه “الرؤية الفنية لـ’رنين’ كانت تتمحور حول الذكريات والثقافة العمانية، وتم تقديمها في سياق حي من خلال إعادة إحياء المنازل الأثرية القديمة التي لعبت دورا مهمّا في الماضي، لتصبح اليوم منصات لنشر الثقافة الفنية، كل فنان قدّم عملا فنيّا مرتبطا بذكرياته الشخصية أو ذكريات مرتبطة بمدينة مطرح، ما أوجد جسرا عاطفيا قويا بين الجمهور والأعمال الفنية، وإن كان هذا النوع من الفنون جديدا عليهم.”

وتضيف “عملي الشخصي كان مرتبطا بذكرى عزيزة مع والدتي، عندما كانت تقوم بتصفيف شعري بضفيرة وتلقي الأهازيج، في جلسة مليئة بالقيم والمبادئ التي غرستها تلك اللحظات. بالنسبة لي، كانت هذه الجلسة أشبه بتوجيه مقدس بين الأم وابنتها، تفاجأت بتفاعل الجمهور مع العمل، حيث شاركني الكثير منهم ذكرياتهم المشابهة مع أمهاتهم أو أخواتهم، مما عزز عمق التواصل بيني وبينهم.”

وتزيد “أود أن أقول إن ‘رنين’ لم تكن مجرد فعالية فنية، بل خطوة متقدمة لنشر الوعي الفني في سلطنة عُمان وتعزيز تقدير الجمهور لهذا النوع من الفنون، مع إعادة إحياء الذكريات من خلال الفن جعل الأعمال قريبة من القلب، وهو ما أسهم في نجاح الحدث بشكل كبير وترك أثرا عميقا في نفسي كفنانة.”

قرب من القضايا

Thumbnail

عن الكيفية التي يمكن أن يقوم بها الفن المفاهيمي ليكون معبرا عن دوافعنا الذاتية التي قد تكون أقرب إلى الفلسفية وما لها من وقع خاص في أعماق الفنان، وقربه من قضايانا الفنية الجوهرية التي تشكل هويتنا وثقافتنا وتراثنا الإنساني، تقول الفنانة رقية إن “للفن المفاهيمي قدرة غير طبيعية ومتفردة على التعبير عن دوافعنا الذاتية العميقة التي قد تكون أقرب إلى الفلسفية. هذا النوع من الفن يتيح لي كفنانة مساحة للتأمل والغوص في أعماق الذات، وهنا أقترب من الأسئلة التي لا يزال لها وقع روحي في أعماقي، والتي قد لا أجد لها إجابة مباشرة. وفي اللحظة ذاتها يمكنني التعبير عن شعوري الداخلي، من خلال فكرة غامضة، أو حتى صراع شخصي بطريقة لا تتقيد بالشكل التقليدي للفن.”

وتضيف أن “الفن المفاهيمي أيضا وسيلة لإعادة صياغة العديد من التساؤلات حول الحياة والروح، وإحياء الذكريات، وتحويلها إلى لغة بصرية أو سياق رمزي يصل إلى المتلقي بطريقة شخصية لها وقع عميق، إنه بمثابة جسر يربط بين المشاعر الفردية للفنان وبين القضايا التي يعيشها الإنسان وتمس الجميع في الوقت ذاته.”

وتوضح “في ما يتعلق بالهوية والثقافة والتراث في سياق هذا الفن، أرى أنه يمكن أن يكون أكثر قربا من قضايانا بطرق مبتكرة وغير تقليدية، فأنا بإمكاني أن استخدم الرموز، والعادات، والقصص الشعبية من التراث الإنساني لإيجاد أعمال تحفز التفكير وتعيد تفسير تلك العناصر في سياق معاصر. الفن المفاهيمي يمنحنا الحرية لتناول القضايا العميقة، سواء عن طريق الهوية الثقافية أو العلاقة مع التراث، من منظور جديد، وربط الماضي بالحاضر، فهذا النوع لا يوثِّق تجاربنا وحدها وإنما يعمل على إعادة صياغتها، ما يسمح بتقديم رؤى جديدة عن أنفسنا وهويتنا للعالم من حولنا، وهذا ما يجعله قريبا جدا من دوافعنا الذاتية والفنية، فهو وسيلة صادقة للتعبير عن روحنا الفردية والجماعية.”

للفن المفاهيمي قدرة غير طبيعية ومتفردة على التعبير عن دوافعنا الذاتية العميقة التي قد تكون أقرب إلى الفلسفية

ونظرا إلى أن للجمهور ذائقته الفنية الخاصة في التعامل مع هذا الفن العميق، تشير رقية مزار إلى أسس التفاعل بين الجمهور وهذا الفن، وما إذا كان يتطلب ذلك مستوى معيّنا من الفهم أو المعرفة، ومدى أثره في تفكير الجمهور وجعله أكثر وعيا بالقضايا التي يطرحها، فتقول “مجتمعنا مثقف ومحب للمعرفة، إلا أن الفن المفاهيمي يُعد نوعا جديدا نسبيا، يتميز هذا الفن بتركيزه على الفكرة بصورة أكثر اتساعا من الشكل، فهناك أدوات تُستخدم ورموز وبمعان غير تقليدية لتوصيل رسائله المتعددة، إن فهم هذا النوع يتطلب وعيا بالفن كوسيلة تعبير، مرورا بتقدير دوره الثقافي والإنساني ويبقى الاهتمام بهذا الفن محدودا إذا ما أردنا قول الحقيقية، فالفضول هو ما يدفع الجمهور إلى طرح أسئلة عميقة بشأنه.”

وعن التقنيات التي تستخدمها الفنانة العمانية في الفن المفاهيمي، والإسهام الذي تقوم به الوسائط المتعددة في توصيل الفكرة المفاهيمية للمتلقي، مرورا باستخدام الذكاء الاصطناعي في الأعمال الفنية وتأثير هذا الذكاء على العمل الإبداعي، توضح “في أعمالي المفاهيمية، أستخدم تقنيات متنوعة تعينني على إيصال فكرتي بوضوح وعمق، أهمها تقنيات الفيديو الأدائي، الذي أراه وسيلة بصرية قوية تعبِّر عن الأفكار بشكل مباشر وديناميكي، وأعتمد على الرموز المستوحاة من البيئة والمجتمع، وأحرص على أن تحمل هذه الرموز معاني أكثر عمقا تتصل بالقضايا التي أتناولها، فأنا جزء من مجتمع عربي محافظ، أجد أن بعض القضايا والأسئلة تتطلب جرأة في طرحها.”

وتضيف “بالنسبة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الفن، أنا لا أتفق مع استخدامه، العمل الفني المفاهيمي بالنسبة لي هو امتداد لتجربة شخصية وهوية وهو أمر لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكيه مهما بلغت تقنياته. العقل البشري بذكرياته وعمقه وقدرته على الإبداع المرتبط بالمشاعر والقصص الإنسانية لا يمكن أن يُستبدل بأي تقنية. إن الفن الحقيقي ينبع من الإنسان، من رؤيته الخاصة للعالم، وهذا ما يمنحه قيمته القادرة على التفاعل.”

Thumbnail

وتوضح الفنانة أن “مستقبل الفن المفاهيمي في ظل التطور التكنولوجي والرقمي، والابتكارات المحتملة التي قد تشهدها الساحة الفنية المفاهيمية في السنوات المقبلة فهناك فرص واسعة للتجديد والابتكار، خاصة ونحن نتحدث عن دمج الوسائط التفاعلية مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي بطرق تدعم الفكرة بدلا من استبدال الإبداع البشري، ورغم أن التطور الفكري في مجال الفن المفاهيمي محليا يسير ببطء، إلا أنه مستمر، وهذا يمنحنا الأمل لبناء وعي أعمق بهذا النوع من الفنون. السنوات القادمة قد تشهد تحولا واضحا في كيفية تفاعل الجمهور مع هذا الفن، حيث تصبح التجربة أكثر شمولا وتأثيرا بفضل التقنيات الحديثة.”

لكل مشروع حياة تحدٍّ يواجهه، هنا تشير الفنانة رقية إلى أبرز التحديات التي يواجهها الفنانون المفاهيميون والتي تكمن “في وعي المتلقي بهذا النوع من الفنون، خاصة في المجتمع الذي لا يزال غير معتاد على الأساليب المفاهيمية التي تركز على الفكرة والرموز. خلال تفاعلي المباشر مع الجمهور، أدركت أهمية هذا التواصل في كسر الحواجز، حيث أتاحت لي الفرصة لفهم أسئلته وتصوراته، مما ساعد في تقريب الفكرة وإثارة اهتمامه. للتغلب على هذه التحديات، نحن بحاجة إلى المزيد من الفعاليات الفنية التي تضم الجمهور بشكل مباشر، وتوفِّر مساحة للحوار والتفاعل.”

وتبين الفنانة أن “التدريب والتعليم يلعبان دورا محوريّا في تطوير الفن المفاهيمي، فالممارسة المستمرة تسهم في تغذية العقل بالفكر والمعرفة، والإقامات الفنية داخل وخارج محيطنا الجغرافي تعمل على صقل المهارات وتوسيع آفاق الفنان، والتفاعل مع الثقافات والتجارب المتعددة يعزز قدرة الفنان على فهم الرموز وتوظيفها بطرق أكثر ابتكارا، كما أن دراسة تاريخ الفن والتقنيات الحديثة، وحضور حلقات العمل والحوارات الفنية المباشرة، من شأنها أن تسرّع عملية التعلم وتفتح آفاقا جديدة للإبداع في سياق الفن المفاهيمي.”

14