رفع الروح المعنوية دون واقعية وصفة ترتقي إلى التضليل في الإعلام المصري

تركز رسائل وسائل الإعلام المصرية على التفاؤل ورفع الروح المعنوية للمواطنين، ليتحول ذلك إلى نهج في الآونة الأخيرة؛ إذ لم تتوقف عن التحدث حول اقتراب نهاية الأزمة الاقتصادية وتحسن الظروف المعيشية أمام الصفقات الاستثمارية الضخمة التي تعقدها الحكومة، رغم أنه لا دليل واقعيا على ذلك.
القاهرة - أصبح تركيز وسائل الإعلام المصرية في الآونة الأخيرة منصبا على زيادة الرسائل التي تدعو إلى التفاؤل من خلال تكثيف نشر أخبار وبث معلومات حول قرب انخفاض أسعار السلع، وانهيار سعر الدولار في السوق الموازية، وانفراج أزمة العملات الأجنبية.
وانخرطت كل وسائل الإعلام في مساعي تهدئة مخاوف المواطنين من تراكم الأزمات، بإعادة نشر إنجازات للحكومة سوف تحقق بموجبها عوائد تنموية، وشرح تفاصيل الصفقات التي ستنعش خزانة الدولة بما يعود بالنفع على المواطنين المتأزمين من موجات الغلاء.
واللافت للانتباه أن وسائل الإعلام التي تركز على تبييض صورة الحكومة هي نفسها التي انقلبت عليها منذ فترة قصيرة وطالبت بإقالتها لتصاعد حدة الأزمات الاقتصادية من دون حلول جذرية، ما يوحي بأن الدوائر التي تدير المشهد الإعلامي تراهن على أهمية التركيز على الإيجابيات وبث روح التفاؤل.
وشهدت الفترة الماضية انسحاب الإعلام المحلي بشكل مفاجئ من الاصطفاف خلف الحكومة، وتغير خطاب بعض الإعلاميين، ومنهم من طالب بتشكيل حكومة جديدة قادرة على تجاوز الأزمات، ومنهم من حمّل وزراء مسؤولية تردي الأوضاع المعيشية.
ولم يصدق بعض الجمهور أو لم يقتنع بالانتقادات التي وجهت إلى الحكومة، والتي عبرت عن تغير غير حقيقي في السياسة الإعلامية، وأن الأمر كان محاولة لامتصاص غضب الناس ونقل قلقهم إلى السلطة.
ويبدو عدم الثقة بالإعلام المصري ميراثا، لأنه متقلب حسب التوجهات السياسية، فلا أحد يعرف بالضبط لماذا ينتقد بشكل مفاجئ ويعود إلى الاصطفاف بوتيرة سريعة، ما انعكس بشكل سلبي على مصداقيته وأدى إلى التشكيك في الرسائل الموجهة إلى الشارع.
ويعتقد خبراء أن تغير نبرة الإعلام حيال الحكومة في توقيت قصير لا يؤدي إلى إحساس الجمهور بأن الإعلام مستقل وينقل نبض الشارع، ويعتبرون أن نشر رسائل تبعث على التفاؤل وتجعل الناس يترقبون المستقبل الأفضل بفضل النجاحات الحكومية سلاح ذو حد إيجابي وآخر سلبي عندما لا يجد الناس الجنة التي وعدوا بها.
ويشير هؤلاء الخبراء إلى أن إحدى أكبر أزمات الإعلام المصري تتعلق بتحركه وفق أجندة مرتبطة بمتطلبات المرحلة، ما يكرس لدى الفئة المستهدفة قلقا، فمهما كانت الرسائل منطقية ستظل محل شك، طالما أن حنكة الإعلاميين محدودة.
وأدركت دوائر معنية بإدارة المشهد الإعلامي خطورة تمادي الكثير من المنابر في الانقلاب على الحكومة وعدم وجود جرعات إيجابية تطمئن المواطنين وتجعلهم يثقون بالسلطة مع وصول فئة من الناس إلى مرحلة تستدعي التدخل بالتهدئة.
واعتاد الإعلام التابع لجماعة الإخوان استثمار ملامح القلق الجماهيري من السلطة، للثأر منها بطريقة تحض الشارع على التذمر والاحتجاج، وهو ما لا يرغب في تكراره مواطنون يعلمون مدى خطورة ذلك على بلدهم، لذلك يتم تكثيف جرعات من التفاؤل بغرض رفع الروح المعنوية وإجهاض رسائل الإخوان السلبية.
وما يثير امتعاض شريحة من الجمهور عودة وسائل إعلام إلى تبرير المشكلات في ملفات بعينها والتحجج بالتحديات الإقليمية وحدها، وهي نبرة غير مريحة على الدوام، لأن الكثير من الدول المحيطة تعيش في نفس الإقليم ولم تشهد نفس الأزمات.
وتتحفظ شريحة من المصريين على تحول الإعلام إلى أداة ناقلة للمعلومات فقط، وتريد هذه الشريحة أن يساعدها في البحث عن حلول للمشكلات، ولا يتحول إلى منبر يدفع الناس إلى التأقلم مع الأزمات أو منحهم جرعات أمل مبالغا فيها.
وتعد مبالغة الإعلام في تبييض الصورة ودفع الناس إلى ترقب الأفضل والإيحاء باقتراب تحسن الأحوال وتهاوي الأسعار من قبيل التضليل، فهو خطاب خادع لحضهم على الصبر.
وليس من مهام الإعلام تقديم صورة براقة على غير الحقيقة أو عقد مقارنات بين ما يجري في مصر وبعض الدول المجاورة التي تعاني من هزات أمنية وصراعات، لإقناع الجمهور بالاصطفاف خلف السلطة وأن ذلك واجب عليه، لأن هذا التوجه أضر بالعلاقة بين الطرفين وقد يفضي إلى قطيعة.
اقرأ أيضا:
المواطن المصري أولاً
وقال أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة صفوت العالم إنه “لا مانع من نشر ثقافة التفاؤل، لكن بحذر كي لا يعيش الناس أحلاما وردية ثم يستيقظون على واقع أليم، وهذا ضد المعايير المهنية، فعندما يقوم الإعلام بالترويج للأفضل عليه أن يقدم ذلك بخطاب عقلاني مقنع وليس من خلال خطاب أشبه بجلسات الفضفضة”.
وأضاف لـ”العرب” أن جزءا من مشكلات الإعلام المصري يتعلق باعتماد بعض العاملين فيه على التلقين بدلا من التحليل والتفسير، ومن المهم أن يتفهم القائمون على المنظومة أن الناس لا يحتاجون إلى دروس ومواعظ بقدر ما يبحثون عمن ينقل الحقيقة كأساس لتقبل الرسالة، ويجب عدم التمادي في طمأنة الشارع بشكل بعيد عن الواقع ما يجعل السلطة قلقة من اتخاذ إجراءات مغايرة للحقيقة فتصبح الخسائر أكبر.
ولا ينكر الكثير من المواطنين تأثر بلدهم اقتصاديا بأزمات إقليمية ودولية، لكنهم يرفضون إصرار الإعلام على التماس الأعذار للحكومة والتضخيم من كل نجاح تحققه والتغطية على بعض الأزمات، ما يدفعها نحو الاستسهال واللجوء إلى المسكنات.
وهناك من يدعم نشر ثقافة التفاؤل عند الناس في ظل الظروف الحرجة التي تعيشها مصر كنوع من رفع الروح المعنوية بدلا من اتساع نطاق الإحباط، شريطة أن يكون ذلك وفقا لحسابات دقيقة، لا ترفع سقف التفاؤل إلى أعلى درجة ولا تنفي وجود أزمات، فمشكلة الإعلام تكمن في المبالغة في المديح والمبالغة في التقزيم.
ويقود تصميم بعض المنابر الإعلامية على البحث عن ثغرات لتبرير عودة الاصطفاف خلف الحكومة بعد الانقلاب عليها إلى استفزاز الشارع، مع أنه لو جرى التعامل بواقعية وتم نقل وجهتي النظر، التي تبرر التفاؤل والأخرى التي تنكره، لتزايدت مصداقية الخطاب الإعلامي ولتحقق غرض السلطة بطريقة مقبولة ومنطقية.
وبغض النظر عن إمكانية تحقيق ذلك، فإن الإعلام المصري مطالب بالتعامل مع الجمهور على أنه ليس ساذجا بالقدر الذي يدفعه إلى تصديق رؤى مصطنعة لتغيير نظرة الناس إلى الحكومة، لأن الرسائل التي تنطوي عليها تأتي من منابر مصداقيتها منخفضة.
وإذا استمر الإعلام في السير على نفس الوتيرة، من الانقلاب على الحكومة إلى دعمها بلا حدود، فسيصبح ترميم العلاقة مع الجمهور في المستقبل بالغ الصعوبة، مع أن الدولة المصرية بحاجة إلى إعلام يحظى بالثقة في ظل تصاعد حدة التهديدات، ما يستدعي أن يكون الخطاب متوازنا ومؤثرا ومقنعا للناس.