رفع الدعم عن المحروقات في لبنان مجازفة باتت وشيكة

تتجه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية إلى المزيد من الانهيار في لبنان مع استعداد الحكومة للإعلان عن رفع الدعم عن المحروقات وهو ما ستكون له تداعيات كارثية على اللبنانيين، في وقت لا تزال الطبقة السياسية تعرقل تأليف حكومة إصلاحات تتولى عاجلا إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
بيروت – قتل ثلاثة أشخاص الاثنين في إشكالين منفصلين بسبب خلاف على شراء الوقود أمام المحطات، التي تتشكل فيها طوابير في شمال لبنان وسط أزمة محروقات حادة تشهدها البلاد.
وتأتي هذه الحوادث في وقت أكدت فيه مصادر لبنانية أن الحكومة قد اتخذت في وقت سابق قرارا برفع الدعم عن البنزين ينتظر أن يتم الإعلان عنه رسميا في وقت قريب، ما سينعكس على المزيد من ارتفاع الأسعار الملتهبة أصلا.
ويعني رفع الدعم عن المحروقات أن سعر صفيحة البنزين سيرتفع من 24600 ليرة لبنانية إلى حوالي 70 ألفا، أي ما يوازي 10 في المئة من الحدّ الأدنى للرواتب، الأمر الذي سيستدعي ارتفاعا موازيا في مجمل الأسعار.
ومن شأن ارتفاع أسعار المحروقات أن ينعكس ارتفاعا في أسعار سلع وخدمات أساسية، بينها فاتورة مولدات الكهرباء الخاصة، التي تعوض نقص إمدادات الدولة، ووسائل النقل، حتى الخبز. ورفعت حكومة تصريف الأعمال مؤخرا أسعار الوقود بنسبة تجاوزت ثلاثين في المئة، في خطوة تأتي في إطار رفع الدعم جزئيا عن الوقود مع نضوب احتياطي الدولار لدى المركزي.
تتزامن حوادث القتل عند تعبئة الوقود مع استعداد الحكومة اللبنانية للإعلان عن قرار رفع الدعم عن المحروقات
وكان المركزي يدعم استيراد الوقود عبر آلية يوفر بموجبها 85 في المئة من القيمة الإجمالية لكلفة الاستيراد وفق سعر الصرف الرسمي المثبت على 1507 ليرات، بينما يدفع المستوردون المبلغ المتبقي وفق سعر الصرف في السوق السوداء الذي تجاوز 17 ألفا خلال الأيام الماضية.
وينفق لبنان 6 مليارات دولار تقريبا على الدعم ويعاني من حالة شلل سياسي ومن دين هائل ويواجه صعوبات في تدبير أموال من الدول والمؤسسات المانحة. ومنذ عام ونصف العام، تشهد الليرة هبوطا متسارعا في السوق الموازية بسبب الأزمتين الاقتصادية والسياسية في البلاد، بينما سعرها الرسمي أمام الدولار يبلغ 1510 ليرات.
ويعمق ذلك معاناة اللبنانيين الذين بات أكثر من نصفهم يعيشون تحت خط الفقر ويئنون تحت وطأة تراجع استثنائي لقدراتهم الشرائية، فيما خسرت الليرة اللبنانية حتى الآن أكثر من 95 في المئة من قيمتها أمام الدولار.
وينتظر اللبنانيون منذ أسابيع لساعات في طوابير طويلة أمام محطات الوقود التي اعتمدت سياسة تقنين حاد في توزيع البنزين والمازوت. وتطور الاكتظاظ في حوادث عدة إلى إشكالات وحتى إطلاق نار بين المواطنين المرهقين من الانتظار ساعات طويلة.
وعلى وقع شحّ احتياطي الدولار لدى المصرف المركزي، شرعت السلطات منذ أشهر في ترشيد أو رفع الدعم تدريجيا عن استيراد سلع رئيسية بينها الوقود والأدوية. وأدى ذلك إلى تأخر فتح اعتمادات للاستيراد، ما أدى إلى شح المحروقات برغم رفع أسعارها. ولم يبق قطاع أو طبقة بمنأى عن تداعيات الانهيار.
وتشهد معظم المناطق تقنينا شديدا في الكهرباء يصل إلى 22 ساعة في اليوم، بينما لا يوجد ما يكفي من الوقود لتشغيل المولدات الخاصة.
وكل يوم تقريبا، يصدر تحذير من قطاع ما: المستشفيات تحذر من نفاد المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات وسط انقطاع التيار الكهربائي ومخاطره على حياة المرضى، الصيدليات تنفذ إضرابات بسبب انقطاع الأدوية، المتاجر قد تضطر لإفراغ براداتها لعدم توفر الكهرباء والوقود.
ويربط مسؤولون الأزمة الراهنة بعاملين رئيسيين: مبادرة تجار وأصحاب المحطات إلى تخزين الوقود بانتظار رفع الأسعار، إضافة إلى تنامي التهريب إلى سوريا المجاورة.
وتعلن قوى الأمن دوريا توقيف متورطين بعمليات تهريب ومداهمة مستودعات تخزن فيها كميات كبيرة من المازوت والبنزين المدعوم إما لتهريبها وإما لبيعها في السوق السوداء بأسعار مرتفعة.
وأعلن الجيش اللبناني في أكثر من مرّة عن إحباط عمليات تهريب محروقات إلى الأراضي السورية، وعن توقيف أشخاص لبنانيين وسوريين.
ومع عجز السلطات عن إيجاد حلول إنقاذية تضع حدا للأزمة المتمادية، تتجلى تداعيات الانهيار أكثر فأكثر في يوميات اللبنانيين، الذين بات أكثر من نصفهم يعيشون تحت خط الفقر ويئنون تحت وطأة تراجع استثنائي لقدراتهم الشرائية.
وكان لبنان قد بدأ مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج إنقاذ مالي في مايو للبحث عن مخرج من أسوأ أزماته منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990، وتوقفت المحادثات بين الجانبين منذ شهور بسبب فشل الحكومة اللبنانية في القيام بالإصلاحات الضرورية وفشل السياسيين اللبنانيين في تأليف حكومة جديدة.
وتأتي هذه الأزمة في وقت يجري فيه رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي مشاورات لتشكيل حكومة جديدة، لتوقف الانهيار الاقتصادي، ولتخلف حكومة تصريف الأعمال الراهنة التي استقالت بعد 6 أيام من انفجار كارثي هز مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020.
ومنذ فوزه بأغلبية الأصوات ضمن مشاورات برلمانية لتكليفه بتشكيل الحكومة، قال ميقاتي “ما عندي عصا سحري وما بقدر أعمل العجائب… أنا مطمئن صار لي فترة عم أدرس الموضوع… وعندي الضمانات الخارجية المطلوبة”، وأكد أنه سيلتزم بالخطة الفرنسية لتشكيل حكومة اختصاصيين تنفذ الإصلاحات اللازمة لجذب مساعدات أجنبية.
ويَعِد ميقاتي في الوقت الحالي، بحكومة تكنوقراطية، وانتخابات حرة، وتحقيق دولي في انفجار مرفأ بيروت، ووضع حدّ للحصانة السياسية لأي من السياسيين الذين تم استدعاؤهم، ومحادثات مع صندوق النقد الدولي. لكن الكثيرين لا يتوقعون رؤية ذلك ويشككون في قدرة ميقاتي على تأليف حكومة في ظل العقبات التي يضعها الرئيس ميشال عون بشأن توزيع الحقائب الوزارية، والتي دفعت في وقت سابق سعد الحريري إلى الاعتذار عن التكليف.
ومسألة الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي والبلدان المانحة تحتاج إلى إرادة سياسية تبدو غائبة من وجهة نظر متابعين لبنانيين لأن أهم خطوة ضرورية وتعد مطلبا دوليا يتركز حول مكافحة الفساد الذي طالب به الشارع اللبناني في تحركاته المختلفة منذ السابع عشر من أكتوبر عام 2019، مرورا بأزمات المحروقات والدواء والغذاء والكهرباء والدعم ووصولا إلى معرفة المسؤول عن الانفجار الدامي لمرفأ بيروت.
وسيكون الحسم في مسألة تمرير الحكومة الجديدة بقيادة ميقاتي والتخلص من عقدة عون والمرور إلى عقد جلسة منح الثقة “إنجازا كبيرا” بحد ذاته بخصوص هذا الملف، باعتبار أن مهمة تشكيل حكومة بقيادة سعد الحريري أخذت من وقت لبنان تسعة أشهر كاملة شهد خلالها البلد تفاقما في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ووصف المحلل اللبناني في السياسة الاقتصادية ومدير مؤسسة تراينغل البحثية نزار غانم، تعيين ميقاتي بأنه “يهدف ببساطة إلى كسب الوقت للطبقة السياسية بأكملها”.