رفع الحظر عن البث المباشر يجذب إلى الصحافة المصرية جمهورا جديدا

عادت الصحف المصرية إلى الاعتماد على تقنية البث المباشر التي أوقفتها قبل عامين، بسبب خسارتها قاعدة جماهيرية واسعة، فضلا عن الخسائر المادية، غير أنها مازالت تقدم بنفس الطريقة القديمة دون ابتكار أو ضوابط، وتخضع لمعيار السبق والمشاهدات، بقطع النظر عن أهمية القضية.
القاهرة - أعادت الكثير من المواقع الإلكترونية التابعة للصحف في مصر التوجه إلى جمهور مواقع التواصل الاجتماعي من خلال استخدام تقنية “البث المباشر” التي جرى وقفها خلال الفترة الماضية بسبب تكرار أخطائها وإحراج بعض الجهات الرسمية، وبدأت صحف عديدة تبدي اهتماما لافتا بأقسام الفيديو، ما يتيح لها الوصول إلى قاعدة جماهيرية واسعة من مستخدمي مختلف منصات التواصل الاجتماعي.
وصدرت منذ عامين تعليمات شفوية من قبل دوائر حكومية تشارك في إدارة المشهد الإعلامي إلى رؤساء تحرير الصحف الورقية والإلكترونية، قضت بوقف خدمة البث المباشر إلى حين إشعار آخر، وعدم تقديم محتوى صحفي عبر تقنية الفيديو بعد ملاحظة وجود فوضى عارمة شهدتها بعض المواقع في ذلك الوقت.
وأمام اتساع دائرة استخدام البث المباشر من جانب متصفحي شبكات التواصل الاجتماعي أنفسهم، وجدت تلك الدوائر التي أصدرت تعليماتها سابقا أن الصحف الرقمية ما لم تدخل المنافسة وتتواجد على الساحة الرقمية وتقدم خدمة صحفية عبر تقنية الفيديو سوف تخسر الكثير من الجمهور، في ظل ضعف المحتوى التحريري.
واستحوذت منصات التواصل الاجتماعي، منذ أن توقفت تقنية البث المباشر في المواقع الصحفية، على الكعكة الأكبر من تلك الميزة، وحققت مكاسب مضاعفة على حساب الصحف الإلكترونية التي حُرمت منها، ما أضاف مزايا جديدة إلى نفوذ وجماهيرية الشبكات الاجتماعية والمواقع التي توظفها، مقابل سحب البساط من تحت أقدام الإعلام التقليدي.
وخسرت الصحف قاعدة جماهيرية واسعة، فضلا عن الخسائر المادية، بعدما استطاعت بعض المواقع الخاصة تحقيق مشاهدات مرتفعة على صفحاتها الرسمية في مواقع التواصل من خلال فترة استخدام البث المباشر التي حرمت منها مواقع حكومية، وتمكنت الأولى من مضاعفة عدد متابعيها، وحصلت على نسبة من الإعلانات التي وفرت ربحا للمواقع الخاصة، وهو ما أدركته الحكومة مؤخرا.
ويرى مراقبون أن الدوائر المعنية بصناعة القرار الإعلامي كانت محقة في التعطيل المؤقت لصحافة الفيديو أمام الأخطاء المهنية الفادحة التي ارتكبها بعض الصحافيين في مواقع إخبارية شهيرة، حيث لم يكن يتم انتقاء الأكثر كفاءة للقيام بتلك المهمة، وجرى اختيار عناصر غير مدربة لتقديم البث حول أي قضية، فالمهم جلب مشاهدات.
وقال الخبير الإعلامي، رئيس تحرير جريدة “الأهرام ويكلي” الناطقة بالإنجليزية السابق، جلال نصار لـ”العرب” إنه “لا غنى عن رقمنة الخدمة الإعلامية في الوقت الراهن كي لا تصبح شبكات التواصل هي الإعلام البديل، لكن المهم وضع قواعد مهنية يحتكم إليها الجميع من دون تمييز، وتصبح هناك مسؤوليات وقواعد للمحاسبة لمنع ارتكاب أخطاء تقود إلى فوضى في البث المباشر”.
وتكمن مشكلة صحافة الفيديو بمصر، بعد أن عادت إلى المشهد الصحفي مرة أخرى في العديد من المواقع الإلكترونية، في أنها مازالت تقدم بنفس الطريقة القديمة دون ابتكار أو ضوابط، وتخضع لمعيار السبق والمشاهدات، بقطع النظر عن صلاحية القضية التي يجري البث حولها، فالمهم أن تجذب انتباه أكبر عدد ممكن من الجمهور.
وكشف صحافي في موقع إخباري خاص لـ”العرب” أن “رئيس التحرير وضع مكافآت مالية للمحررين حسب معدل مشاهدات كل فيديو في البث المباشر، كنوع من تحفيزهم على التقاط وقائع نادرة ومثيرة للرأي العام، على أمل أن يحقق الموقع عوائد مالية مرتفعة من نسب المشاهدة، ويتمكن من صناعة ترند من خلال مقطع الفيديو”.
وأضاف الصحافي، الذي اعتذر عن ذكر اسمه وموقعه الإلكتروني، أن “إدارة التحرير لم تحدد سقفا أو خطا أحمر لأي فيديو يتم بثه، وأصبح كل محرر يفكر طوال الوقت في كيفية البث والتصوير مع شخصية مثيرة أو تدور حولها أحاديث الرأي العام، أو يقوم بالتقاط واقعة لافتة للانتباه وينفرد بها عن غيره، كي يحصل على المكافأة المالية، والتي تزداد كلما جلب الفيديو المزيد من المشاهدات على شبكات التواصل”.
ويؤشر ذلك على أن العشوائية مازالت تسيطر على طريقة تقديم الكثير من المحتويات الصحفية عبر تقنية البث المباشر في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، ويظهر هذا في استسهال استخدام خاصية “فيسبوك لايف” كأداة سهلة وغير مكلفة حتى زادت المحتويات المنشورة، وأضحت هناك منافسة شرسة بين المواقع المختلفة.
وبينما لم يعد العنوان الجذاب للخبر الصحفي يجلب المزيد من الجماهير، أصبح البديل أمام الكثير من الصحف كتابة عنوان مثير للبث المباشر، بعيدا عن القضية التي يناقشها الفيديو، فالمهم أن يتم تجاوز فترة الركود وهجرة القراء لهذه الصحف الإلكترونية، والتقدم في التصنيف الخاص بالمواقع على شبكة الإنترنت.
منصات التواصل الاجتماعي تحقق مكاسب مضاعفة على حساب الصحف الإلكترونية التي حُرمت منها، ما أضاف مزايا جديدة إلى نفوذ وجماهيرية الشبكات الاجتماعية
وأوضح جلال نصار لـ”العرب” أن “عنصر التشويق في الإعلام الرقمي مطلوب، شريطة الجدية والاحترام والمهنية، أما استغلال قضايا مثيرة لصناعة جماهيرية عبر تقنية البث فيجلب تداعيات سلبية على الصحيفة أو الموقع؛ فلا أحد ضد ابتكار عناصر جذب للمحتوى، لكن يفترض أن يكون الإعلام قدوة لمنصات التواصل في الرصانة وعدم الابتذال”.
ويؤكد خبراء في قطاع الإعلام أن الصحافة المصرية خسرت الكثير عندما غابت عن محتوى الفيديو، لأنه أساسي في مجاراة التحولات المتسارعة بسوق الإعلام العالمي، لكن معاودة القيام بتلك المهمة دون تدريب على معايير وضوابط البث تقود إلى كوارث مهنية قد تدفع السلطات إلى حجب التقنية مرة أخرى.
ويبني هؤلاء رؤيتهم على فكرة أن الصحافي الذي يقدم المحتوى المرئي عبر تقنية البث المباشر للموقع الإخباري يقوم بمهمة المذيع، وإذا افتقد التدريب ومعايير المهنة فسوف يتسبب في أزمات لمؤسسته والمهنة والجمهور، وطالما استمر الغرض الأوحد مرتبطا بمعدلات المشاهدات وحسابات الربح والخسارة فستظل سقطات البث مستمرة.
كما أن التركيز على صحافة الفيديو نابع من شعور مسؤولي المؤسسات بأن المحتوى المكتوب لم يعد يهم الجمهور، لكن المعضلة باتت مرتبطة بتهافت الصحف على جذب الجمهور من خلال تقنية البث المباشر بأقل الإمكانيات، ما يقود إلى المزيد من ضعف المحتوى المكتوب، لأنه بإمكان الموقع أن يحقق مشاهدات كثيرة من وراء فيديو واحد يتم بثه مباشرة، وهو رقم قد لا يحققه مائة خبر.
وهناك الكثير من المؤيدين لمجاراة الصحف المصرية التطورات التكنولوجية في مجال التواصل الاجتماعي، حيث تحقق نجاحات في وقت قياسي، على أن يكون هناك توازن بين مجاراة العصر والاهتمام بالمحتوى المرئي والمكتوب، لا أن يتم تسطيح أحدهما مقابل الاعتماد كليا على تقنية البث في مخاطبة الجمهور، لأن ذلك سوف يؤدي إلى نتائج سلبية، ويفقد المحتوى الصحفي ما تبقى من قيمة وتأثير ومصداقية.