رشيد بوجدرة: حان الوقت لطرح السيرة الحقيقية لحرب التحرير

بعض الشباب يرتقون سلّم المجد بفضل السلطة وسيادة الرداءة.
الأحد 2022/05/08
الإسلاميون أفسدوا الثورة

كان القارئ الجزائري وعلى مدى نصف قرن وأكثر، ينتظر بلهفة روايات رشيد بوجدرة، منذ أن وقّع أول رواية له وهي الأكثر شهرة “التطليق”، في العام 1969، كما يقول مواطنه الروائي أمين الزاوي، إذ عُرف بوجدرة بالكتابة الجريئة والتي لا تخاف من اختراق المحرمات على اختلافها: العرقية والجنسية والسياسية. كانت رواياته حدثا أدبيا حقيقيا، على الرغم من أن بعضها كان ممنوعا في مرحلة معينة إلا أنها كانت تقرأ وتتداول بين الطلبة في الأحياء الجامعية بشكل يشبه الممنوعات، وكان القراء ينتظرون رواياته بشغف. “الجديد” التقت بوجدرة عشية افتتاح معرض الجزائر الدولي للكتاب العائد بعد عامين من الإغلاق الاضطراري بسبب الجائحة التي حلّت على العالم. وكانت المناسبة التي قرر فيها بوجدرة العودة إلى الظهور أمام الجمهور، خلال ندوة نظمت يوم الثامن والعشرين من مارس الماضي حول الأدب الأفريقي. وكان عائداً من بجايةـ معقل الحراك الشعبي ـ حيث نشط ندوة التقى فيها بقرائه بعد طول غياب.

الجزائر- يعدّ رشيد بوجـدرة (المولود سنة 1941 بالجزائر) من روّاد الرواية الجزائرية الحـديثة بالفرنسية والعربية، لأنه يكتب باللغتين، وهذا منذ روايـته الأولى “التطليق” (1969)، تلاها أكثر من ثلاثـين نصا بين رواية ومقالة، أهمها “طوبوغرافيا مثالية لاعتداء موصوف” (1975) و”الحلزون العنيد” (1977) و”التفكّك” (1982).

حاز على عدة جوائز من ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. كما شارك في كتابة سيناريوهات لأفلام سينمائية شهيرة.

وتنوعت كتابات بوجدرة بين الشعر والمسرح والقصة وخاصة الرواية التي اشتهر من خلالها ليرسخ اسمه كواجهة للأدب الجزائري والعربي في أوروبا. ونذكر من بين أعماله “الحلزون العنيد” 1977، “التطليق” 1969، “ألف عام وعام من الحنين” 1977، “فوضى الأشياء” 1991، “شجر الصبار” 2010، “الربيع” 2015، وغيرها.

 وإلى جانب كتاباته الأدبية التي لاقت رواجا واسعا، شارك بقلمه السيّال في مواجهة الزحف الأصولي في التسعينات، إذ اعتبر صاحب الكلمة المفتوحة على خلخلة الجاهز وقلب الأشياء، ووُضع اسمه بسبب ذلك في قائمة المحكوم عليهم بالموت، كما لم تستثن سهامه، في آخر كتاب له، دعاة الردة والتغريب.

في كل أعماله يحمل بوجدرة رؤية ثاقبة للعالم المتقلب وقراءة متحرية غير مهادنة وإنسانية في الوقت ذاته للأحداث التاريخية التي ترسم آفاق الغد.

◙ أصبح الجميع يكتب والجميع ينشر
أصبح الجميع يكتب والجميع ينشر

 لم يفقد الروائي شيئاً من قوته الجسدية ولا من جذوته الروحية، ولم يسأم من الحياة، بالرغم من تجاوزه سن الثمانين. وهو دائم الفضول بأدق الأشياء المحيطة به وبأمهات القضايا التي تشغل بلده والعالم حواليه، مثلما يؤكده لنا في هذا الحوار الحصري الذي أجراه مع مجلة “الجديد”، بعد فترة توارى خلالها عن الأضواء. فترة كرّسها للتأمل والكتابة والسفر. بعد روايته (La dépossession) “التجريد من الذات” وكتابه السجالي “زناة التاريخ” (2017)، يعكف حاليا على وضع اللمسات الأخيرة لكتاب جديد.

مستقبل البلاد

الجديد: تشهد الجزائر تحوّلات سياسية واجتماعية وثقافية كبيرة. كيف ترى مستقبل هذا البلد الذي واكبت كل مراحل تطوره منذ الاستقلال. كيف تفك رموز أحواله وتحولاته من خلال رواياتك؟

• رشيد بوجدرة: تصنع الأمم مستقبلها بطريقة أو بأخرى لكن يستحيل أن تفعل ذلك بتجاهل ماضيها. كانت ثورة التحرير نموذجية وقاسية جداً. لذلك من الطبيعي أن تكون الإدارة السياسية شاقة ومعقدة. والتحولات التي تتحدث عنها هي دليل على ذلك. الجيل الذي خاض الحرب هو على وشك الانقراض وهناك أجيال جديدة دخلت عالم السياسة. ثم هناك دخول الجزائر في دوامة العولمة الجهنمية التي أضرّت كثيراً باقتصادها.

انتقلنا من نوع ما من الاشتراكية “المحتشمة” مع هواري بومدين إلى نوع من الرأسمالية “الهجينة” بل الهستيرية التي سلمت الاقتصاد الجزائري إلى مجموعة من اللصوص الجهلة. هم كل هؤلاء الذين نراهم يتعاقبون حاليًا أمام المحاكم التي تحقق في قضايا الفساد الذي حوّل بعض هؤلاء اللصوص إلى أباطرة مخدرات. وعلى الأجيال الجديدة أن تحترس جيداً وتبقى يقظة لأن الطيور الكاسرة ما زالت تحوم على البلد.

الجديد: ماذا تعني لك انتفاضة 22 فبراير 2019؟

• رشيد بوجدرة: كان لانتفاضة 22 فبراير دافع أساسي، ألا وهو قرار بوتفليقة الترشح لولاية خامسة. والشارع قال لا. وكان على حق. كانت هبّة عفوية وثورية. لكن سرعان ما تم اختراق هذه الحركة الشعبية العميقة وتم احتواؤها من قبل حركتين متربصتين وتملكان تنظيماً جيداً: الإسلاميون والانتهازيون من رجال الأعمال.

أصبح الإسلاميون هكذا “سادة الموقف”، وكانت المظاهرات تنطلق عند انتهاء صلاة الجمعة. في إحدى التغطيات الصحافية، كتب الصحافي بن فضيل في جريدة “الوطن” آنذاك “إنها الساعة 1:11 بعد الظهر، انتهت الصلاة، وفتحت أبواب مسجد ‘الرحمة’ لتسمح بانطلاق المسيرة”، يومها ماتت الثورة الشعبية بعدما استولى عليها الإسلاميون والانتهازيون الجشعون والطفيليون. ومن يومها بدأت فئات من الشعب المقهور والمظلوم والمهمش تغادر الساحات، معلنة عن موت الحراك.

◙ صمت المثقفين يعود إلى خيبة أملهم إذ أصبح الفكر الفلسفي والفني غارقًا في الشعبوية و"موضة الشبابية"

الجديد: يعيب البعض على المثقفين العرب صمتهم، وأحياناً تخاذلهم وتواطأهم، أمام ما يدور حولهم. كيف تتصور مكانة المثقف في المجتمع العربي المعاصر، مع كل الانقسامات والتجاذبات الموجودة بين الإسلامية والحداثة والعولمة وقلق الهويات؟

• رشيد بوجدرة: صمت المثقفين يعود إلى خيبة أملهم. أصبح الفكر الفلسفي والفني غارقًا في الشعبوية و”موضة الشبابية”. وأصبح الجميع يكتب والجميع ينشر، ارتقى الشباب، مع أن أغلب ما يكتبون رديء، في سلّم المجد بفضل السلطة السياسية وسيادة الرداءة.

في السبعينات، كانت الجزائر تنتج، على سبيل المثال، حوالي ستين فيلماً في السنة. اليوم: صفر! لا أحد استطاع أن يحل محل رسامين مثل خدة وإيسياخم ومسلي وغيرهم من الذين كانوا يحيون أروقة العرض وينشّطونها. من حل محل علولة في المسرح؟ هل كان لدينا كاتب ياسين جديد منذ رحيله؟ لا!

دور السينما التي تم تجديدها تحوّلت من جديد إلى أنقاض، ومتحف “ماما” الجميل الموجود في شارع بن مهيدي مغلق. أمام هذا الكم من الخراب، تقوقع المثقفون الحقيقيون على أنفسهم وركنوا إلى الصمت مما سمح لبعض الانتهازيين بالذهاب إلى فرنسا وتشويه سمعة الجزائر إرضاء للمستعمر القديم، بدافع الانتهازية الخالصة. لم أسكت عن هذا فقمت بنشر “زناة التاريخ” للتنديد ببعض التجاوزات النيوكولونيالية. هذا هو صمت المثقفين.

كل هذه الانحرافات سببها الإفلاس السياسي ونحن في طريق مسدود بسبب فشل المدرسة والانحراف الديني وكل الآفات التي يعاني منها المجتمع الجزائري، وأخطرها انهيار الأخلاق.

فلم تعد هناك قيم ولا أيّ قواعد انضباط وهذه الانحرافات هي نتيجة اليأس، ومن أوجهها الأكثر شيوعاً الانطواء على الذات وعودة الجهوية.

الجديد: بعد صدور روايتك“La Dépossession”  عام 2017، هل لديك مشاريع جديدة؟

• رشيد بوجدرة: بعد “La Dépossession” نعم لديّ مشاريع، سيتعرف عليها القارئ في حينه.

الحقائق والتصوف

◙ بوجدرة عُرف بالكتابة الجريئة والتي لا تخاف من اختراق المحرمات على اختلافها
بوجدرة عُرف بالكتابة الجريئة والتي لا تخاف من اختراق المحرمات على اختلافها

الجديد: في رواية “Les Figuiers de barbarie“ التي نشرت عام 2010، ركزت على شخصية أحد رموز الثورة التحريرية، عبان رمضان وعلى ظروف اغتياله. لماذا هذا الاختيار؟ هل تعتقد أن الأدب يمكن أن يلقي الضوء بشكل أفضل على النقاط المظلمة من التاريخ؟

• رشيد بوجدرة: في هذه الرواية رويت مقتل عبان رمضان على يد إخوانه. ففي مؤتمر الصومام الذي خطط له عبان، تم الفصل بين الاتجاه التقدمي والاتجاه المحافظ. ولقد تم تأديب عبان على انتصاره في هذا المؤتمر، الذي كان الأكثر ديمقراطية والأكثر حنكة.

ولا يزال الموضوع من التابوهات إلى حد اليوم، بعد مرور ستين عامًا. حان الوقت لطرح السيرة الحقيقية لحرب التحرير على الطاولة ومناقشتها بهدوء. كل ثورات العالم مرّت بمثل هذه الصراعات الداخلية وهذه الجرائم “الأخوية”. ولهذا لا بد من استعادة تاريخ الجزائر ابتداء من المدرسة الابتدائية، وحان الوقت لذلك.

الكاتب يعتبر النص الصوفي شاعرية سامية وعوالم تسمو بالنفس دخل فيها وانضم إليها في سنّ مبكرة جدًا

الجديد: في أعمالك كثيراً ما تستشهد ـ وبشغف حقيقي ـ بكبار علماء التصوف وبنصوصهم. هل في رأيك بإمكان هذا الفكر، الحامل للتسامح والعقلانية، أن يكون علاجًا شافيًا لعلل العصر الذي يطغى عليه العنف والبغضاء وروح الانتقام؟

• رشيد بوجدرة: هذا الحضور الدائم والمتعدد للصوفية في رواياتي يرجع إلى لقائي مع ابن عربي، معلّم الأمير عبدالقادر. والتصوف هو قبل كل شيء توغّل وتعمّق في أغوار الإسلام وشغف بالنص. والنص الصوفي يعتبر شاعرية سامية وعوالم تسمو بالنفس. دخلت فيها وانضممت إليها في سنّ مبكرة جدًا، وأنا في السابعة عشرة. هي فلسفة في حب الله والآخر، وشوق إلى السلام والصفاء بين جميع الأديان وجميع الفلسفات.

 

* ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

11