رحيل حسنة البشارية.. نهاية رحلة مفعمة بالإبداع الفني والتحدي الاجتماعي

مغنية موسيقى الروك الصحراوية تترك إرث موسيقى عابر للحدود.
الثلاثاء 2024/05/07
امرأة قوية تحدت مجتمعا ذكوريا

الجزائر - فارقت الفنانة العالمية، المنحدرة من بشار في الجنوب الصحراوي حسنة البشارية، الحياة بعد رحلة حافلة بالإبداع والعطاء الموسيقي، خاصة وأنها تمكنت من إخراج موسيقى القناوي وآلة “القمبري” من حدود المنطقة إلى العالمية رغم كثرة التحديات؛ فقد كان محيطها وسكان قبيلتها يحضون الأطفال على قذف خيمتها بالحجارة لأنها امرأة تمردت على تقاليد وأعراف البلدة المحافظة.

صنعت الفنانة الراحلة حسنة حسنات، قبل أن تصبح مشهورة بـ”البشارية” نسبة إلى مسقط رأسها مدينة بشار، آلتها الموسيقية من مكنسة البيت خلال بداية مشوارها الفني في مطلع ستينات القرن الماضي، وكأنها أرادت أن توصل إلى العالم رغبتها الجامحة في صناعة مجدها الفني، وكنس التقاليد والأعراف الصحراوية التي لا تعترف بصوت المرأة، فكيف لها أن ترضى بأن تكون فنانة.

ولم يشفع لها انتماؤها إلى عائلة تشتغل على طقوس موسيقية محلية، ينصهر فيها الطابع الأفريقي مع الشغف الصوفي، أن تستلم المشعل الفني بسلاسة، لأنها ببساطة امرأة لا يرضى لها المجتمع أن تجهر بصوتها أو تداعب آلة موسيقية، وبذلك كانت بداية مرحلة التحدي المثخنة بذكريات وسرديات عن القهر الاجتماعي وحتى السياسي، فقد عاصرت الفنانة المولودة عام 1950 صور المستعمر الفرنسي وأخبار الثورة التحريرية وهي طفلة صغيرة.

وآنذاك لم يكن أحد يدري في بشار وفي الجزائر عموما أن البنت حسنة ستصنع مجدا فنيا لها ولبلدتها ولبلادها الجزائر، وتخرج موسيقى الديوان المعروفة بـ”القناوي” من بيئتها المعزولة في عمق الصحراء إلى العالمية لتصبح مرادفا لموسيقى الروك، قبل أن تحمل هوية “الروك الصحراوي” بواسطة آلات بسيطة لكنها استقطبت الأضواء. فآلة القمبري، وهي تشبه عودا يتألف من ثلاثة أوتار، والقرقابو وهي آلة ضبط الإيقاع، أنتجتا لونا موسيقيا وأغاني جابت بها مختلف المسارح الفنية في أوروبا والولايات المتحدة.

رحلة الفنانة الراحلة بدأت في مطلع ستينات القرن الماضي لما قامت حسنة بتكوين فرقة موسيقية محلية مع بعض الصديقات، اقتحمت بواسطتها الأعراس والحفلات والمناسبات، لكن ذكورية المجتمع كانت ترفض ذلك، ولذلك يعمد السكان إلى حضّ الأطفال على قذف خيمة الغناء بالحجارة، غير أن إرادتها كانت أقوى وبدل أن تستسلم لسلطة الذكور اقتنت قيثارة كهربائية وجهاز تكبير صوت، ووسعت نشاطها من الخيمة العائلية إلى الصالات المتخصصة.

شغف حسنة بموسيقى القناوي لم تكن له حدود وتحملت لأجله الكثير، فقد كرست حياتها للبحث واكتساب المعارف الفنية

شغف حسنة بموسيقى القناوي لم تكن له حدود وتحملت لأجله الكثير، فقد كرست حياتها للبحث واكتساب المعارف الفنية والموسيقية، كالتحكم في العزف على آلات من الموسيقى الغربية، لقناعة لديها بأن قواسم مشتركة بين القناوي والروك ستنتج فنا يتخطى الحدود الصحراوية المحلية، وهي بالفعل نجحت في أن تجدد وتبدع ففتحت أمامها مسارح الفن في مدن وعواصم عالمية.

وبين قناوي وظفه القدماء كموسيقى تعبر عن الاستعباد والظلم المسلط من طرف الاستعمار في القارة السمراء، وبين قناوي حسنة، الذي وظفته في التعبير عن الإنسان الأفريقي وعن البيئة الصحراوية، برزت الفنانة الراحلة كأم روحية لموسيقى الديوان من خلال التجديد في اللحن والآلة والنوتة، إلى أن صارت لونا موسيقيا مميزا يحوز مكانته مع الألوان الأخرى.

اكتشاف حسنة البشارية بدأ في منتصف سبعينات القرن الماضي، لما غنت في حضرة سياح أجانب وصحافيين وسينمائيين، في حفل ببلدة “تاغيت”، ومن ذلك الحفل بدأت الدعوات تتوالى عليها من كل مكان، داخل الوطن وخارجه، واستقطبت أنظار الإعلام والفضائيات والمهتمين بعالم الموسيقى، الأمر الذي أدخلها مجال الاحتراف الفني فأسست فرقة بعناصر من جنسيات مختلفة كفرنسا وإيطاليا والبرازيل، وشرعت في جولات فنية مكوكية جابت خلالها ربوع العالم.

خلفت الفنانة عدة ألبومات عالمية، أبرزها “الجزائر جوهرة” و”ألوان الصحراء”، وعلق على رحيلها المفاجئ الموسيقار عمار عمرون بالقول “أنت كالشمعة تحترق لتضيء على الآخرين.. لم تتوقف عن صناعة الفرح، رغم أنها فقدت أخاها الوحيد الفنان بشير، ثم بعد ذلك فقدت ولدها الوحيد الفنان مصطفى، ورغم المرض وسنين العمر المضنية، ظلت المعلمة حسنة واقفة بجسدها المثقل بالأمل، صامدة بروحها المفعمة بالفن، حتى آخر نفس من البقاء في هذا الوجود الثقافي والفني، بما يحمل من آفاق وأنفاق، لا يعرفها إلا من أبتلي بهبة السمع أو مَلَكة السماع”.

أما الأديب والمترجم بوداود عمير فقال “حسنة البشارية مطربة جزائرية أصيلة، أصالتها نابعة من أعماق الجزائر ومن جذور تراثها، تغنّي عن الوالدين، وأولياء الله الصالحين، والصحراء، وعن الجزائر. وتحرص على ارتداء أزياء تقليدية، من عمق تراث المنطقة، لديها أغنية مشهورة في عشق الجزائر بعنوان ‘الجزائر جوهرة يا يمّة لحنين’، نالت لصدق كلماتها وجمال لحنها التراثي استحسان الجزائريين، وحققت من النجاح ما لم تحققه أغان وطنية، صرفوا على إنجازها الملايين”.

وكتبت صحيفة “بروفانس” الفرنسية أنها “فنانة معروفة في فرنسا وكندا، وقد قامت في شهر فبراير الماضي بجولة فنية ناجحة، قادتها إلى مدن أوروبية، انطلاقا من باريس. اشتهرت بوصفها أول امرأة عزفت على آلة القمبري، وهو شكل من القيثارة ثلاثية الأوتار، وهي آلة مستخدمة في موسيقى القناوي، في شمال أفريقيا، وتوصف بـمغنية موسيقى الروك الصحراوية، وهو عنوان شريط وثائقي كندي، أنجز عام 2019، تناول حياتها ونشاطها الفني”.

14