"رحيل آريس" غارنيكا ليبية بطلاتها النساء

كشف الربيع العربي عن أهوال ترقى إلى أن تكون أبرز تراجيديات الألفية الثالثة، فقد عاشت بلدان عربية كثيرة مثل سوريا وليبيا، ويلات حرب لا تسعها القصص، حكايات متداخلة وغريبة وأصوات ضحايا ما تزال تتردد في الذاكرة، ومن يحرس الذاكرة بجدارة مثل الروائيين؟
تونس - عندما نتحدث عن الأدب الليبي، والروائي تحديدا تنحصر الصورة الغالبة في نمط محدد من الكتابات والتي يغلب عليها الطابع الذكوري، ونادرا ما تحضر الكتابات النسائية رغم غزارة هذا الإنتاج ورقيّه. وحتى في التجربة الأدبية النسوية الليبية يغلب الحديث عن الشعر أكثر من الرواية. وأنا نفسي كنت من هذه الغالبية إلى أن أهدتني الناقدة والكاتبة الليبية فاطمة سالم الحاجي فرصة قراءة رواية “رحيل آريس” ونشرها.
مع أول سطر، سبقت عين القارئ والكاتب الصحافي عين الناشر. لذلك كانت القراءة الأولى قراءة استكشافية أدخلتني في كادر جديد بكل تفاصيله من حيث ثيمة الرواية وشخصياتها وانفتاحها لتكتمل الصورة التي كنت قد رسمتها خلال حوارات مع الكاتبة حول خبايا الرواية وتفاصيل كتابتها والأسباب التي دفعتها وشجّعتها على الكتابة عن الحرب الدائرة في ليبيا، والتي لم يكتب عنها بعد بشكل واضح وواقعي وشامل.
الحرب على أشدها اليوم بين فريق آريس وفريق أثينا لكن “حتما سيرحل آريس وسأهديك وطنا”، هكذا وعدت حور حبيبها موسى وهي تستعدّ لتصعد إلى طائرة ستحملها بعيدا حيث يمكنها أن تعالج جروحها.
يتجاوز اختيار فاطمة سالم الحاجي لـ”رحيل آريس” عنوانا لروايتها رمزية الاسم “آريس”، باعتباره إله الحرب في الميثولوجيا اليونانية.
آريس إله الحرب والشجاعة. تخفي قامته الطويلة وهيئته الأنيقة التي صوّر بها وهو مرتديا درعه وخوذته أو يلوح بالرمح ويتخذ وقفة القتال، حقيقة وحشيته ودمويّته. يتقدّم آريس في حروبه، ومعه أخته آريس، ربة “الكفاح”، وابنيه ديموس «إله الرّهبة» وفوبوس «إله الخوف والرعب».
عندما يظهر هذا الفريق في بداية المعركة تتجلى ملامح انتصار عظيم لكن سرعان ما تظهر الحقيقة، هو فريق يمثل القوة الوحشية وغير المنضبطة، يتسبب في مجازر لكنه في النهاية يسقط على أيدي أثينا آلهة الحكمة.
أسرار الربيع العربي
الرواية بحث عن الهوية والوطن بين تداخل الدين والسياسة والمؤامرات وتتشابك العادات والتقاليد مع الأيديولوجيات
تقول الحاجي في تقديم الراوية ‘”كتبت رحيل آريس لا لسبب إلا لأنني لم أستطع أن لا أكتب”.
تؤمن الكاتبة بأهمية الكتابة كفعل مؤثّر في تصحيح المسارات الخاطئة وإن تحقق ذلك على المدى الطويل، وأيضا تؤمن بأهمية هذا البوح باعتباره واجبا وطنيا يحفظ ذاكرة الوطن بحلوها ومرّها. أطلقت الصرخة عسى أن تكون فرصة للوقوف الآن على الأزمة لا لمجرّد التأريخ.
تكتب الحاجي للحاضر وللآن، لا تبحث عن تخليد هذه الأحداث روائيا بل عن إيجاد حل لطرد آريس، المستقبل لأصحابه، لأجيال قادمة حتما ستجد ما تتّعض به وتراجعه لكن حتى يكون ذلك المستقبل يجب الاهتمام بالحاضر والواقع وما يجري اليوم.
من ركام الحرب التي تعيش على وقعها ليبيا منذ سنة 2011 بعثت روح الروائية عند الحاجي، فما كتبته في السابق كان أغلبه في إطار تخصصها في مجال الدراسات النقدية. “رحيل آريس” هي الرواية الثانية لفاطمة سالم الحاجي، وقد سبقتها رواية “صراخ الطابق السفلي”.
تجمع ثيمة الحرب والهدم والبناء بين الروايتين. في “صراخ الطابق السفلي” تتحدث الكاتبة عن معاناة ليبيا من الحصار الجوي والاقتصادي الغربي في الثمانينيات. وفي “رحيل آريس” تتقصى تداعيات ثورة 17 فبراير 2011.
لا شكّ في أن “آريس” سيرحل مهما طال الوقت ومهما كان هناك خراب سيكون هناك بناء على أنقاضه. وبين خط الهدم وخط والبناء تجري أحداث رواية “رحيل آريس” وفصول “الربيع العربي” بشكل أعمّ ويتجسّد سؤال البحث عن الهوية والوطن ويتداخل الدين بالسياسة وتحاك المؤامرات وتتشابك العادات والتقاليد مع الأيديولوجيات والتوجهات الفكرية ليرسم كل ذلك دوامة ضياع وبحث.

اختيار فاطمة سالم الحاجي لـ"رحيل آريس" عنوانا لروايتها يتجاوز رمزية الاسم "آريس"، باعتباره إله الحرب في الميثولوجيا اليونانية
من رحم هذا الوضع خطّت الكاتبة الليبية غارنيكا جديدة نقطتها الرئيسية ليبيا لكنها تتنقل في تفاصيلها بين سوريا وتونس وتستحضر ما جرى ويجري في بلاد ما سمي “ربيعا عربيا”.
المكان الرئيسي ليبيا لكن الألم ممتد وشظايا الإرهاب الذي جاء به هذا “الربيع” خرّبت أكثر من بلد وأدخلت البلبلة في أكثر من مجتمع. وجدت الشعوب نفسها عند مفترق طرق بين الماضي والحاضر، تتساءل أيها أفضل وأي الطرق أصحّ، لا أحد بلا خطيئة، لكن أيهم أقلّ دمارا. شكّك القادمون الجدد في عقيدتنا السياسية والثقافية والمجتمعية وحتى الدينية، وعدوا بالتغيير لكن لا شيء يظهر في الأفق غير الألوان القاتمة.
الوضع أضحى كما وصفه جورج أورويل في روايته 1984 “الحرب صارت أشبه بهستيريا متواصلة استشرت في جميع البلاد، وأصبح الشعب ينظر إلى جرائم الاغتصاب والسلب والنهب وذبح الأطفال وتحويل سكان الطرف المهزوم عن بكرة أبيهم إلى عبيد والانتقام من الأسرى بشتى الوسائل التي قد تبلغ حد حرقهم أحياء أو غليهم في الماء باعتبارها حقّا طبيعيا ويستحق الثناء ما دام مرتكبوها هم الطرف الذي يؤيده الشعب وليس العدو”.
ليست هناك مبالغة في ذلك وقد لامس البطل موسى، ذلك حين كان يشتغل في جمع بقايا الجثث المتناثرة من الطريق بسرعة ليفسح المكان للجثث القادمة، ولامس ذلك بعد انضمامه إلى إحدى جماعات تنظيم الدولة، حيث القتل باسم الدين وسبي الحرائر واستعباد الناس تحت مسمى “الجهاد”. لامس ذلك في حواراته مع حور وعامر وأبي بكر، ومع شباب ثوري يساري التقاهم في أحد السجون. لمسه خلال رحلة إلى تونس وفي جولة بين مدن ليبية رأى خلالها ما يندى له الجبين من دمار ودماء واسترخاص للوطن.
وموسى مسؤول ليبي عمل في مناصب قيادية في النظام السابق. عاش فترة سقوط النظام وتقلباتها واطلع على مختلف التوجهات السياسية والاجتماعية والدينية التي ظهرت بعد 2011، وانتقل بين حركة مد وجزر مرة تأخذه إلى السجن ومرة إلى صفوف داعش، وأخرى تحمله إلى تونس حيث تترابط أحداث المتغيرات بين البلدين كما كان الحال دائما.
يمسك موسى بأطراف الخيط الروائي لكن دائرة الشخصيات تتسع لتشمل شخصيات رئيسية أخرى أبرزها حور وعامر بالإضافة إلى شخصيات أخرى تظهر حسب المغامرة والحدث والسياق، وفي المراوحة بين الماضي والحاضر. ولكل شخصية مهما كانت مساحتها خصوصيتها ووقعها، فمثلا شخصية الأم كانت حاضرة بقوة رغم محدودية الدور.
المرأة والحكمة

صورة الأم تظهر كلما تسارعت الأحداث واحتدم الموقف، وكأنّها وقفة لاسترجاع الأنفاس وللتخفيف من حدة اللحظة، فمثلا بينما كان موسى يستعد لمحاكمته من قبل أمير الدولة الإسلامية بتهمة التجسس يعلن فجأة النفير إثر هجوم عنيف من الجماعات المعادية.
“الأحداث التي جدّت على الجماعة ألهتهم وأنستهم أمري. علا نداء التكبير من كل الأرجاء أخذ كل واحد سلاحه وتفرّقت المجموعات في الخارج، وأنا أتفرّج على المشهد مترنّحا بين الحقيقة والخيال. لم أتلق أمر الخروج إلى القتال من أحد فبقيت في البهو أحدّق في المهرولين في فزع يردَدون نداء الحرب، أنا مجرد طباخ الأمير، حمدت الله على نعمة إجادة الطهو التي كنت قد ورثتها عن أمي وها هي تنقذني من الخروج إلى القتال، ظلت أمي الطباخة الأولى المميزة لحفلات أفراح أهل الحيّ لعشرات السنين”.
ويواصل موسى تخيلاته القادمة من الماضي تملأ أذنيه ضحكات مليكة وتزكّي أنفه رائحة كسكسي أمه الشهيّ. ليستفيق فجأة على صوت جندي يصرخ يحمله وعلى مشهد دماء الجرحى المتناثرة في مكان.
وفي فصل آخر تحضر صورة الأم بما تحمله من معاني الحنان والوطن والأمان، لكن في صورة أخرى هي صورة زهرة حبيبة موسى في العهد السابق التي قتلت على أيدي ابنه بإيعاز من أمه (زوجة موسى الأولى)، زهرة هي الأمل والجمال والشباب التي أعطت موسى حياة جديدة سرعان ما اغتالتها “المنظومة القديمة”. موت زهرة انعكاس لموت الوطن.
حدث الموت حضر أيضا مع أخت موسى، وهي واحدة من أهم الشخصيات الحاضرة الغائبة في الرواية والتي تحرّك الأحداث. مبروكة كانت الوحيدة من عائلة موسى التي نجت “من الموت… من حرائق الذل ولهيبه”، لكن “نال منها الوحوش، ومزّقوا جسدها بأنيابهم السامة”. رغم ما لحقها لم تسلم مبروكة من عقدة التقاليد ولفّ حبل العار حول عنقها. هربت إلى تونس علّها تحمي نفسها وتحمي ذلك الطفل في بطنها.

لم يرحمها موسى رغم معرفته بأن ذلك الطفل هو ثمرة هجينة انفجرت من رحم الفوضى التي عمّت بعد سقوط النظام واستشراء ظاهرة الرغبة في الانتقام وهستيريا الاغتصاب والقتل والتنكيل بكل ما له علاقة بالنظام السابق. وهو نفسه يعاني من ذلك. رفض ذلك الطفل لأنه يعتبره عدوه وابن عدوه الذي حرمه من منصبه وحياته المرفهة ومن عائلته قبل أن يكتشف أنه حرمه أيضا من وطنه.
مبروكة هربت إلى تونس لكن ذلك الهروب لم يضمن لها مستقبلا آمنا. لم يرحم موسى أخته وظلّ يلاحقها حتى قتلها، مثلما لم يرحم الكثير من الليبيين بلادهم وعاثوا فيها فسادا وإحراقا وباعوها بأثمان بخسة.
لكن، على أنقاض الخراب والألم والحسرة تظهر مبروكة وزهرة وامرأة أخرى، هي حور، المرأة ذات الشعر الأحمر التي تتطور علاقتها بموسى. حور قصة أخرى تختلف عن قصة زهرة ومبروكة، هي حورية فاتنة قادمة من الخارج أهداها الأمير لموسى ليتمتّع بها ليلة فتطورت العلاقة بينهما.
حور أيضا انعكاس لتناقضات المرحلة فهي تتاجر في أعضاء الموتى من ضحايا الحرب لتنقذ ضحايا آخرين. من رحم الحرب تبعث الحياة، هي أم ثكلى تهرّب الأطفال اليتامى إلى خارج البلاد لتنقذهم من مستقبل غامض قد ينتهي بهم قتلى أو غلمانا في تنظيم الدولة الإسلامية.
هذه المرأة الجميلة اتخذت بعد نجاحها من الهروب من مجمّع التنظيم من مغارة مهجورة تتخفى بركام بنايات مهدمة في العاصمة مقرا لها. وقد تحول هذا المقر المرادف للموت إلى خلوة لحور وموسى يمارسان فيها كل الطقوس المرتبطة بالحياة من رقص وضحك وجنس وحديث وشجن. فيه رقصت حور على لوحة آريس وبشّرت بسقوطه.
في الكثير من الحوارات كانت حور تمثل صوت الحكمة، صوت أثينا التي دائما ما انتصرت على آريس. وقد كانت كذلك بالنسبة إلى موسى الصوت الذي أنار طريق رحلته بحثا عن “حياتي بين أهلي ودولتي، سلطتي الضائعة ووطني المسروق أحلامي المتيبسة”.