رحالة فرنسي انتصر للمهمشين ضد الغزاة

كتاب عن رحلة الروائي الفرنسي تيوفيل غوتييه إلى الجزائر يكشف فيه عن رؤية نقديّة للعالم، وعن نوع من الاستنكاف الضميريّ أمام عنف التاريخ وممارسات بعض الحكّام.
الاثنين 2019/06/24
كاتب آمن بالفن من أجل الفن

أبوظبي - ضمن كلاسيكيات الأدب الفرنسي، التي تصدر عن مشروع “كلمة” للترجمة، في دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، صدرت ترجمة كتاب الروائي والشاعر والناقد الفرنسي تيوفيل غوتييه بعنوان “رحلة إلى الجزائر”.

وقام بترجمة هذه الرحلة عن الفرنسية الكاتب والمترجم المغربي محمّد بنعبود، وراجع الترجمة ونقّحها وقدّم لها الشاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم في باريس كاظم جهاد.

وتصدر هذه الترجمة بالتزامن مع ترجمة رحلة الكاتب نفسه إلى مصر، وهي الأخرى ترجمها محمّد بنعبود وراجعها كاظم جهاد.

نادرا ما شهد الأدب الفرنسي كاتبا بمثل تعدّد ميول تيوفيل غوتييه وتنوّع الأنماط الأدبيّة والفكريّة التي مارسها وترك في كلّ منها أكثر من عمل فاتن شديد التأثير، حيث كان شاعرا وروائيّا وقاصّا وكاتبا مسرحيّا وناقدا، عرف بمتابعاته الحاذقة لجديد الآداب والفنون، وقصص رحلاته الشهيرة التي تُوقف القارئ على رؤيته المتفرّدة والمتبحّرة في معاينة البلدان التي يزورها شرقا وغربا، ومتابعاته المرهفة للأعمال الأدبية والفنيّة المكرّسة لهذه البلدان.

وزار غوتييه الجزائر في صيف 1845، ونشر عن رحلته إليها في المجلات صفحات متفرّقة لم يجمعها في كتاب إلّا في 1865.

رحلة لواحد من رواد جيل من الأدباء الرحالة الذين صدمهم عمل أوروبا الغازية على محو معالم الشرق الأصلية

نجهل دواعي تأخّر غوتييه في نشر رحلته هذه في كتاب، هو الذي دأب على نشر نصوص رحلاته (إلى كلّ من إيطاليا وإسبانيا وروسيا والقسطنطينية مثلا) فور عودته إلى بلاده.

ولا نعلم هل كان لهذا التأخّر علاقة بالمضايقات التي تعرّض لها غوتييه بعد ثورة 1848 إذ كان يعارض انهماك الفنان في السياسة، وبالتالي تدخل السياسة في الفن.

وكان من أهمّ منظّري تيّار “الفن من أجل الفن”، ولعل هذه العبارة-الشّعار هي من وضْعه، بيد أن هذا “اللّا تسيّس” لم يمنعه من أن يعبّر عن رؤية نقديّة للعالم، وعن نوع من الاستنكاف الضميريّ أمام عنف التاريخ وممارسات بعض الحكّام.

قام الكاتب برحلته هذه بعد غزو فرنسا للجزائر بخمسة عشر عاما، وخلافا للمثقّفين الرسميّين أو المستشرقين المحترفين في ذلك العهد، لا يحيّي غوتييه حضور فرنسا في البلاد، لا بل نجد في صفحات عديدة من الرّحلة مقارنة بين “المتحضّرين” و“البدائيّين” أو “البرابرة” المزعومين، ينتصر فيها دوما لهؤلاء الأخيرين، موحيا بأنّ البدائيّة والبربرية ليستا في “ملعبهم” حقّا.

ولا يدين الاستعمار جهارا، ولكنّه أبعد ما يكون عن محاباته، هو بالأصل ناقدٌ للحضارة الغربيّة بخاصّة، وللمدنيّة التي رآها زاحفة بتناقضاتها، وكان مثل الكثير من الرّومنطيقيّين يرغب في الهرب من قبح الحضارة الصناعية الوليدة وحملة رسالتها المزعومين، ولا يمكن القول إنّه كان مسرورا بالعثور عليهم أمامه في الجزائر.

وهو بهذا المعنى أحد روّاد جيل من الأدباء الرّحالة الذين صدمهم عمل أوروبا الغازية على محو معالم الشرق الأصليّ وعلى إعادة اختراع الشرق، “شرْقنته” بلغة إدوار سعيد.

انطباعات شاعر بواقع الجزائر في أولى سنوات الاحتلال الفرنسي
انطباعات شاعر بواقع الجزائر في أولى سنوات الاحتلال الفرنسي

علاوة على هذا، يضمّ الكتاب في قسمه الثاني عدّة متابعات نقديّة للعديد من عناصر الأدب والفنّ الاستشراقيّين المتعلّقين بالجزائر، كان غوتييه قد كتبها في فترات مختلفة وجمعها الباحث الجزائري وهمي ولد إبراهيم، الذي تنطلق الترجمة من طبعته لهذه الرّحلة.

وهكذا يغنم القارئ في مختلف نصوص هذا الكتاب منفذا إلى انطباعات شاعر وأديب وناقد عن المكان والإنسان الغريبين، وفي الأوان ذاته معرفة بواقع الحال في الجزائر في أولى سنوات احتلال الفرنسيّين لها، وجولة منعشة ومثرية في إبداعات الفنّانين والكتّاب المفتونين بالبلاد يومذاك، وهذا كلّه يعبّر عنه غوتييه بشاعريّته المعروفة وحذقه بأصول النقد الأدبيّ والفنّيّ، وبإفادته الدائمة من معرفته الواسعة بمختلف الثقافات.

وولد تيوفيل غوتييه في مدينة تارب في جنوب فرنسا في 1811 ونشأ في باريس وتوفّي في ضاحيتها نويي سور سين في 1872، وهو أحد أهمّ أعمدة التيّار البرناسي في الشعر الفرنسي، وأحد أعلام الرومنطيقية الفرنسية والداعين إلى تجاوزها في آنٍ معا.

ومن أهمّ مجموعاته الشعرية “ملهاة الموت” و“مزجّجات وأحجار منقوشة”، ومن أشهر رواياته “الآنسة موبان” و“رواية المومياء”، أنعش الأدب السردي ومدّه بأبعاد غرائبية وخيالية جديدة من خلال قصصه الفنطازية التي نشر “مشروع كلمة” ترجمة لأجملها وأكثرها ذيوعا قام بها الروائي والشاعر التونسيّ محمد علي اليوسفي وراجعها كاظم جهاد، حملت عنوان "الميتة العاشقة وقصص فنطازية أخرى".

أمّا محمّد بنعبود، مترجم الكتاب، فمن مواليد إقليم تطوان بالمغرب، سنة 1957. حاصل على الإجازة في اللغة العربية من كلية آداب فاس، وعلى دبلوم كلية علوم التربية بالرباط. له رواية “قصبة الذئب” (اتحاد كتاب المغرب) ومجموعة قصصية “تجاويف” (منشورات وزارة الثقافة المغربية) وسنياريوهات أفلام تلفزيونية.

ومن ترجماته روايتا “المصرية” و“ابنة النيل” لجيلبرت سينويه (منشورات الجمل)، وروايتا “اغتيال الفضيلة” و“مخالب الموت” لميلودي حمدوشي (منشورات عكاظ)، وكتاب “لقاء” لميلان كونديرا وست روايات لستيفان زفايغ، (المركز الثقافي العربي) و”طرديّات” وثلاث روايات للناشئة لألكساندر دوما (مشروع “كلمة” للترجمة).

14