رجاء بكرية: جنون الشهرة السريع أفسد جماليات الكتابة

تجهل الساحة الثقافية والأدبية العربية الكثير من إنتاجات ما يسمون بـ”عرب الـ48″، ممن يعيشون داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وربما لا تصل أصوات هؤلاء لما لهم من اختلاف في الرؤية عن نظرائهم العرب، لكنهم يجدون أنفسهم غرباء في الداخل والخارج، وهو ما يحاولون تجاوزه بمنجز أدبي ما ينفك يتطور. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتبة الفلسطينية التي تعيش في حيفا رجاء بكرية حول رؤيتها للكتابة الروائية الخاصة والعربية عموما.
تجمع رجاء بكرية بين عالم الأدب والكتابة والفن التشكيلي كما أنها ناقدة في مجال الفن المرئي، وتشغل منصب أستاذة محاضرة في موضوع التعددية المجالية، والكتابة الإبداعية، في المراكز الثقافية والكليات الأكاديمية، تعيش في حيفا منذ 1996.
عديدة هي مؤلفات الكاتبة خاصة في جنس الرواية حيث أصدرت روايات “عواء ذاكرة” و”امرأة الرسالة” و”عين خفشة” و”نمر الثلوج” (رواية للفتيان)، كما لها مجموعتان قصصيتان هما “الصندوقة” و”الباهرة”، علاوة على مقالاتها وبحوثها، ما خوّلها لتتوج بالعديد من الجوائز الأدبية الهامة.
العرب: ما هي أهم التحديات التي تواجه الرواية العربية؟
رجاء بكرية: كيف تكسر منطق السرد الروائي بالجذب الفني الحر، ولو كان من ثوابت المكان مكانك. وأعني التأسيس لعالم سردي يزخم المتلقي بجماليات العالم على تفاوت مستوياته. فما لا يتنبه إليه صناع الرواية أنفسهم أن روتين العوالم المزدحمة بالوجوه مثلا قد يفسد إيقاع جمالياتها وأدوات سفرها الحسي إلى المتلقي. على اعتبار أن المنطق الحسي هو منطق آخر يقابل إيقاع المنطق السردي ويؤسس لعناصره الجمالية.
أذكر رواية اشتغلت على تكرير البطل على طول الحدث وأفسدت متعة دهشتها تماما. أسميتها رواية مأزومة ورغم ذلك حازت على جائزة لضيق الخيارات حينها. الرواية عموما مطالبة بتوفير رصيد يكفي الروح كي تخض بها المخيلة لتتوهج. هكذا تستفز المتلقي حسيا، وما لم تف بشرط وصولها إليه ستظل تجربة مارقة، ونحن نريد التجربة التي تدعم ثباتها فينا من دون ثرثرة لا طائل منها، نقدية كانت أم تنظيرية لأن لحظة الكتابة لا تحتمل الثقل، بل تحتاج إلى أن تتجرد مما هو أرضي وتسمو خفيفة في رهف السماء. لا بد من الإشارة هنا إلى أن المدرستين عموما لا تعنيان القارئ كثيرا حين يمل ما يقرأه، يرميه وينام.
الرواية تغيرت

رجاء بكرية: على المنظومة الثقافية العربية أن تفيق من نومتها، العالم تغير
العرب: إلى أي حد تضر الأدلجة بالنص؟
رجاء بكرية: الأدلجة بعيني فن وليس توثيقا، يتعلق بالزاوية التي يرى منها الروائي نصه. هي تقنية ليست سهلة ويمكن للكاتب أن يخطئ مسار قلمه وهو ينسحب خلف تيارها، السر في الحنكة الحسية التي سيعتمدها. الحسية حتما قبل الفكرية لأنها منجى التشوش السردي، والكاتب منجاه الحقيقي تياره الشعوري، حين يمتطيه بزخم فكره. روايتي “عين خفشة” اشتغلت على هذا الموضوع بفيض ذاكرة وقلب وعلى حذر. عبر مسارها المتداخل استطعت أن أستعيد ذاكرة النكبة الفلسطينية في حر تفاصيلها ومواقعها.
العرب: ما ضرورة أن يبحث الروائي عما لا يقال ويقوله بطريقته؟
رجاء بكرية: الضروري في الروائي ألا يشبه أحدا إلا ذاته وحين يضع بصمته فأن تنتقل بالعدوى إلى سواه كعدوى شافية تأخذ كل من يلامسه إلى الرغبة في إحداث تغيير. سؤالك جميل ويصب في باب الاختلاف، وبعيني مهمة الروائي أن يتجاوز رتلا طويلا من الممنوعات كي يعلن ما يعجز عنه سواه في الحياة بالمجمل. ثمة أشياء لا يمكن لأي أحد حتى أن يقولها ما عداه. هذا هو فن الكينونة، إذ لا يكفي أن تكون كائنا تحت سماء الله، بل أن يكون لك دور لا يجيده سواك.
مهمة الروائي أن يدهش الحياة بما لم تصادفه ولم تره. يثير اللغة، يختطف لغة السرد مثلا إلى غابات لا يعرفها إلا هو، ومدن تعيش تحت بحار لم يسمع بها غيره، وربما يعثر على مسببات منطقية لأن يعيش الحب في مناطق أخرى من العالم لا تعرفها الحياة ذاتها. فتغيير مفاهيم التواصل مع الروح كما الشخوص المتخيلة والأمكنة تقع على عاتق الروائي، هو ناسجها وهو الحاكم بأمر غاباتها أو حدة صخورها. ومن هذا المفترق يأتي السؤال ماذا نكتب؟ نكتب أنفسنا أولا خارج ذاتنا في خضة عنيفة للثابت في مدلولاتها. نثير الشك في عوالم لم يجرؤ عليها غيرنا، فنغسلها من المرايا العابرة كي تحدد وجهها الأول بتفاصيله العذبة، أليست العذوبة جل ما نطمح إليه في مذاق الحرف حين نضع لبنة الدهشة الأولى في رواياتنا؟
العرب: كيف ترين الرواية خلال العقد الأخير؟
رجاء بكرية: ما يثير استغرابي الإقبال الكمي على كتابة الرواية، حتى أن رتلا طويلا من الشعراء خاصموا قصائدهم وانشغلوا بالسرد وعوالمه الدخيلة. وبقدر ما يثير الأمر السعادة لإحياء هذا الفن العميق بقدر ما يدفع إلى تساؤل لحوح، هل لانتشار الجوائز حول المشاريع الروائية يد فيما يحدث؟ وللإجابة على سؤال شائك كهذا سوف نتجنب الخوص في الأسماء ومناحي وهجها.
وفق ما تابعته، فإن التجارب الروائية الحديثة مسلك فرعي في صرح الرواية العربية الواسع. يزخر بالمغامرات لهدف واضح، إنجاز نص يستحق أن تحتفي به الجوائز. وهو ما يضيق على خناق جماليات الهجس الفني في الكتابة الروائية، لأن الحقيقة التي تسعى إليها الرواية على اختلاط مذاهبها وأدواتها وأساليبها غير ذلك.
وأريد هنا أننا كقراء وكتاب على حد سواء نستحق أبوابا أشد ثراء من تفاصيل الحاصل كي نطلق أسماءنا على عمل روائي. فالرواية فتح جديد للقلب أولا وللفرادة ثانيا، ولدهشة النوعي في التجربة ثالثا، لذلك تظل كرزا نادرا مشتهى.
العرب: ماذا تغير في شكل الرواية؟
رجاء بكرية: ذات يوم شكل صدور رواية عيدا للأدب، وتسألني ماذا تغير؟ قبل الآن كانت للرواية قيمة أشد بهجة ومتعة وجمال، تتقاسم ظهورها الحالة الثقافية من أقصاها إلى أقصاها، على غير ما يجري الآن حيث أخذت مسلكا فرديا بحتا. ما يحدث الآن أن معايير الفكر، تغيرت، وشروط الدهشة والمتعة والمشاركة تغيرت أيضا. جنون الشهرة السريع أخذ من جماليات الكتابة رحلتها الماتعة إلى الحلم والسفر والاكتشاف، وكل ما يحدث اليوم أننا نتابع أقلاما مهرولة نحو أبطالها.
البصمة في الكتابة
العرب: ما ينقصك كروائية؟
رجاء بكرية: سؤال جميل، والإجابة عنه أبسط مما تتوقع. لا ينقصني شيء غير أن ترفل مدينة روحي بسكينتها. ما أفعله للرواية مصدره إيماني بضرورة تغيير النهج في الكتابة، أسلوبها، أفكارها، خطتها، مصادر ثرائها وإضافتها إلى محيط الكتابة العام. أهجس بلا آخر بفكرة لم يغامر بها أحد، لم يستيقظ على مساكب اخضرارها سواي، لأنها من خصوصيات أفكاري ومرجعياتي العقائدية، السياسية، الحسية وأبعادها الجمالية. الحسية تحديدا التي ترهف كلما عثرت على قوقعة بحرية خالية من كائنها الجميل الذي غادر وترك مكانا فارغا للنبوءة.
على صعيد العلاقة بيننا كفلسطينيين يعيشون في مناطق الـ48 والعالم العربي، ينقصنا الاعتراف بجهادنا الطويل في حفظ هويتنا وحقنا أن تتعامل المرجعيات الثقافية مع مادتنا الأدبية كما تفعل مع أي كاتب في العالم. ترهقني مثلا فكرة تهميش رواياتنا في المسابقات الأدبية لمجرد أننا نعيش داخل الخط الأخضر. فرواية الفتيان الأخيرة والوحيدة التي كتبتها في الآونة الأخيرة “نمر الثلوج” همشت في العديد من المسابقات الأدبية وحرمت من التوازي مع شبيهاتها من العالم العربي.
فكرة اعتبارنا عرب الـ48 مرفوضة تماما. فصبغة الهوية التي نتوفر عليها تصنفنا دون حق في خانة الغرباء، ما لا نقبل فكرة تأثيثه المغلوطة وغير المتوازنة مع خطوط الكتابة الصفراء والحمراء. لسنا يهودا ولسنا جزءا من عالم عربي واسع يتعثر في تحديد انتماءاته، ماذا نكون إذن؟ على المنظومة الثقافية العربية أن تفيق من نومتها الطويلة بشأن لوننا. العالم تغير وانقلبت معاييره، وعلى ضيوف الحالة الثقافية أن يعتبروا معايير الاختلاف في منجز الحالة الأدبية منوطا بكم الاختلاف الثقافي النوعي لمشروع الفردانية لكل أديب على حدة. أن تفتح عيون الإبداع على استثناءاته هو من يحكم في السبق على مستوى الإنجاز والحضور معا.
العرب: مدى قبولك لآراء النقاد بشكل نهائي؟
رجاء بكرية: لا خلاف لي مع النقاد، مهمتهم أن يصدروا انطباعات عن المتع الفكرية والروحية التي ترافق رحلة سفرهم في العمل الأدبي. تعجبني صحوة حبرهم حين يندهشون. المنظومة السليمة مطالبة بأن توفر للنقاد منبرا يوزعون منه أوراقهم النقدية، وأعني يصدرون فكرهم الانتقائي عن الأعمال الأدبية، فالساحة الأدبية بحاجة ماسة إلى الفكر.
كيف سينشأ حراك نوعي إذا اقتصر الأدب على اجترار نصوصه وسط غياب زجاجة مكبرة ترى التجديدات الخارقة للعادة فيه؟ الحقيقة أن حضور النقاد لن يكون سببا في تبني رؤاهم. سيرمي كل منهم فكره ويترك لي حرية التأمل. لن يكون الاجتهاد النوعي في النقد عبر إقناعك بجدوى التغييرات المفترضة في بصمتك، بل بتلميع ما تستثنى فيه وتختلف فيه عن سواك، لذلك أنا أعتبر النقد بصمة من بصمات الجمال النوعي في الكتابة أكثر مما أعتبره بوصلة. حتما هو لا يوجهنا بقدر ما يمنحنا مسافة لتأمل ما أنجزناه. ويبدو لي أننا نختلف في تعاملنا مع هذا اللون النوعي في الكتابة حتما كمتلقين سواء كنا كتابا أم رواة كل وفق حاجته الشخصية لمرايا يرى منها ذاته دون حاجة إلى أن يفسر له سواه ذاته.
العرب: الطموح إلى تحقيق أسلوب جديد؟
رجاء بكرية: أسلوب الروائي هو بصمته ولونه. السر الحقيقي في مشروعه هي بصمته. البصمة هي الكتابة بمتعها وإشكالاتها، بازدحاماتها وزحم هواجسها، بازدهار خطابها. كلها معا تشكل طبعة لخطوط الفكر الأدبي الخاص بكاتبها. أما عن طموحي، فأنا لا أطمح بل أفعل. ومنذ الحرف الأول الذي سجلته في روايتي الأولى التي توجس النقد في الاقتراب منها خالفت السائد، واعتليت صهوة المغامرة. هناك اقتطعت لنفسي مسارا فرديا مشيت فيه بثقة بالغة لكن بحذر شديد. مشروع التجريب الذاتي هو الذي يفتح دروب جديدة لبصمات الأصابع والقلب.
علينا كروائيين اختاروا مسار الفتنة والإدهاش أن نطمح إلى تجديد مشاريعنا الروائية قلبا لثورات المياه الراكدة في بحار الأدب. هاجس التجديد حالة وجودية من حق الروائي أن يقلب نظامها حد إرباك القارئ الذي يجرؤ على اللحاق بقطار عوالمه. هكذا أرى رحلة الكتابة قطارا يتجاوز خطوط العالم كي يثأر من الغائب في الرواية الجيدة. في كل مرة يخوض كاتب رواية يدخل من باب لم يطرقه غيره، يعني أنك تلجأ إلى شكل جديد في الكتابة الروائية لم يلجأ إليه أحد.
الرواية العربية والأبطال
العرب: ما رأيك في مستوى الرواية بعد نجيب محفوظ؟
رجاء بكرية: أعتقد أن المقارنة غير عادلة. نجيب محفوظ حالة كلاسيكية على مقاس عالم يجنح إلى الواقعية بتحيز واضح حتى على مستوى رسم الصورة فنيا. هو من أسس لمدرسة الحياة التي لاطمه مخرزها. يعني مقارنة عوالمه بسواها تجنٍّ على مشروع الرواية العربية عموما لأن من كتب بعد محفوظ امتطى صهوة تيارات تجريبية أخرى منطلقات عوالمها المغامرة والابتكار. الجهات اليوم مفتوحة على عصف التجريب، بتطرف طروحاته أحيانا. محفوظ سفينة محملة بالغرائب، وما بعده مراكب تمخر عباب الموج.
العرب: من أين تخلق الشخصية الروائية في أعمالك؟
رجاء بكرية: تقصد البطل حتما. لا بطولة في غياب الشغف. من الممر الخلفي للشوق والهجس والانفعال تشتعل أنفاس البطل. لكن الهجس ليس جسرا حتميا إليه، ولا تزاحم الانفعالات واقتتالها عليه، لكن حتما هو كم الإثارة التي يخلقها مروره غيبا أو حضورا في النفس والمخيلة معا. سيمتلك من الغرائبيات والوضوح ما يؤدي بك إلى ملاحقته أكثر مما يلاحقك، والنبش في خصوصياته حد ابتكار ما يجنبك التصادم به عينيا.
حتى مشاريع السفر إليه طيران بلا هدف غالبا على درج الروح. كل دهشة في حضوره ممكنة، وكل تطوير لأبعاده اتساع نحو ازدحام القلب بالصور لأنه لا يظل على صورة واحدة. هو التداخل في الأمزجة ومصادرها، متعها وخرابها، عتمها ووهجها وانفلاتاتها. تأتي من حالات التناغم في شفافية روحك كصانع للحالة أولا ثم تتجاوزها لتفاصيل الاختلاف، من هناك تتشابك الصور وتمطر الحياة من نوافذ جسدك عليها. البطل لا بد أن يدوخ عالمك أنت ويصارعك قبل أن ترسله إلى قارئك، هو اختبار لنضج مشروعك في أوله وآخره.
العرب: إذا ما فكرت يوما في كتابة سيرتك الذاتية هل ستكتبين كل شيء عنك (المحرج والصعب والحساس إلخ) أم أنك ستقدمين شيئا وتخفين أشياء؟
رجاء بكرية: السيرة الذاتية لا تكتب بأي حال بل تعاش، وحين تكتب فلأن مادتها تطاولت عليك ولم تعد قادرا على التنفس معها، لكنك حتما ستجد لها مسارات في عملك الروائي، ومساراتها وشوشة قد لا يسمع بها سواك. ولا يصغي إليها غيرك. هي مطالبة أن تبقى لك وما تحرره من تفاصيلها سيغني مادتك الروائية بنسغ حكاية لن يسمع بها قارئك إلا معك.
هكذا أرى مشروع السيرة الذاتية حصرا. أحببت بعض ما سجل في فن السيرة الذاتية، لكن ما خلبني بحق هو ما خيل إلي أنه سيرة ذاتية. قد أكون تمازجت مع مقتطفات من حياتي في رواياتي، لكني حتما لم أسجل فصولا طويلة تحكي عني وإذا حكت فبضمير لا يعود إلي، وعبر تقنية سردية جمالية تقود إلى فنية الكتابة أكثر مما تقود إلى الحقيقة لأننا حتما نبحث عن المستوى الجمالي وتشظياته الفكرية الحسية أولا، والغزارة في منجم الحكايا التي ادخرناها لرحلة بهاء سرية في الروح؟ أنا على اعتقاد أن جماليات سيرتك تكمن في أسلوب تقنينها وتفنينها كجزء لا ينفصل عن جسد الرواية. تداخل غير مباشر يثري العمل الذي تعالجه. كل هذا يسمونه ابتكارا لسيرورة الحالة الابداعية، لا تهم فيها المسميات بقدر ما تهم فنية المضامين.
العرب: هاجس البحث عن هوية للرواية العربية أو التي يكتبها كتاب عرب كيف ترينه؟
رجاء بكرية: الهوية هذه الأيام مسمى لم يعد متداولا بقدر ما نصر على تقنية الكتابة وجماليات مناحيها. هما سر الحالة التي تخرج بها. ويضاف إلى ذلك أن الرواية هي مشروع شخصي بحت ينقص أو يزيد بقدر ما يضاف إليه من لون. واللون هو المفردة والفكرة والهجس، وشكل الحوار، ومسافة العبور، وعدد بطاقات الدهشة التي تفعم المخيلة والقلب وتحرض النشوة على الاستشراء في منطقة المتعة المتاحة، للكاتب والقارئ معا. فالمتع لا تأتي من الصدف في رواياتنا، بل من ملاحقة متبادلة بين الروائي وشخوصه والإصرار على تبادل أدوارها.
صناع الرواية أنفسهم لا ينتبهون إلى أن روتين العوالم المزدحمة بالوجوه مثلا قد يفسد إيقاعها وجمالياتها وتلقيها
العرب: كيف تنظرين إلى العالمية وما يقولونه عنها؟ وما ينتج عن الجوائز العالمية المعروفة ضرورتها للكاتب، والسعي إليها؟
رجاء بكرية: العالمية بعيني تخضع لفضفاضية بالغة، وأكثر مما ينبغي، وقد يحدث أن نتصرف بها خارج سياقاتها. الحالة العربية الراهنة تعول على العالمية كثيرا. وكل رواية تصدر تريد أن تصل إلى أبعد ما يمكن في محيطها الإبداعي، لكن ما لا ينتبه إليه كثر أن العالمية لا تصنع بقدر ما تخلقها شروط المكان والزمان الآنيين والمحليين لكاتبها وأن اختراقها مسافة عوالم كاتبها الفيزيائية إلى بلاد بعيدة لا يقلدها نيشان الانتشار العشوائي.
قد تكتب رواية عن الحي الذي تعيش فيه وتصل أصداؤها إلى آخر العالم، وقد تكتب عن آخر العالم ولا يقرأك غير محيطك الضيق. هذا يعني أننا سنجاور حقيقتنا وذاتنا القريبة ما أمكن حين نشعل نار الحكاية كي تصل ذواتا غريبة لا نعرفها. هذا هو منطق التجاوز، فالدفء الحسي ولغة القلب هي من يوقد وليمة الحكاية. وليمة من نوع لم يجربه القلم العربي إلا على صدف. قلة يفهمون معنى أن تولم حكايتك وتملأها بحضورك كاملا كأن قبيلة كاملة تشغل أماكن حولك. هذه هي أبعاد التواصل الحسي مع شرارة الفكرة الروائية حين تتسع وتغرف من نشوة التواصل معها، وشروط تحققها أقل مما نتخيل.
العرب: أمام هذا الكم المتلاحق من الهزائم العربية هل يمكن أن تنتج الرواية بطلا يحمل انتصارا قادما أو يبشر على أقل تقدير بمستقبل أفضل؟
رجاء بكرية: ليس من وظيفة الرواية أن تأتي بأبطال تتوج أمجادهم وتطلقهم إلى العالم، كما أن البطل ليس العنوان الصحيح لصناعة البشارة. وهم الخلاص عبر بطل أسطوري بعيني هو من يبقينا في أماكننا. الوهم يصنع رواية بامتياز لكنه لا يصنع أبطالا لأن الوهم سهم قاتلة للواقع، فالرواية تتغذى من تفاصيل الكينونة الواقعة أيضا. لم يهزمنا غياب الأبطال إنما تعلقنا المرضي بنجمها الرخو وبأي ثمن. كل بطل يسعى إلى روايته الفردية حين تناديه دعسات أصابعها خلف أذنه، يأتي إليها محملا بعروشه ولا يتركها قبل أن يتأكد أنها أكملت دورة انفعالاتها.