رائحة العولمة تفوح من المطبخ المغربي

المطبخ المغربي يجمع بين الأصول البابلية والروافد الإغريقية والرومانية والفينيقية والأمازيغية والإسلامية.
الأربعاء 2020/10/21
المغرب وجهة الطعام اللذيذ

اشتهر المطبخ المغربي في الشرق والغرب لتنوعه وثرائه وخصوصية مذاقاته، لكنه مع ذلك يصارع رياح العولمة التي أتت بها الفضائيات والمطاعم الغربية التي انتشرت في المدن الكبرى في المغرب، كما أن تسارع نسق الحياة ساهم أيضا في انتشار الوجبات السريعة، لذلك بقي الطبق المغربي في المطاعم الفخمة والبيوت التي تتفرغ فيها النساء للشؤون المنزلية.

الرباط – طيلة أيام الحجر الصحي، وجدت النساء المغربيات الموظفات والصبايا من طالبات الجامعات والمعاهد فرصة الدخول إلى المطبخ بمزاج الحاذقات ليصنعن الخبز باستعمال الـ”خميرة البلدية” أو الحساء التقليدي “الحريرة” أو الكسكسي أو الطاجين الذي يتغير بتغير فصول السنة، أو البيصارة.

ومن لم تجد الفرصة في السابق لتتعلم أصناف طعام أجدادها بحكم الدراسة أو الشغل، فإن الحجر الصحي منحها الوقت لتقف إلى جانب أمها في مطبخ يعجّ بالتوابل والبهارات تشاهد أناملها التي تعرف المقادير دون ميزان، والمواقيت التي تضيف فيها الخضار واللحم دون أن تتابع عقارب الساعة لتملأ رائحة الطعام الذي تعده أنوف من بالبيت ومن يدخله.

فسيدة البيت المغربية معروفة بجملة “عينك ميزانك” في إشارة إلى مقدار التوابل المستعمل في الأطباق، وهي دقة تميز النساء المتفننات في فن الطبخ.

تقول فطيمة، الموظفة ببنك والتي أفنت عمرها بين مقاعد الدراسة ومكاتب الوظيفة، إنها تعرف طعم أغلب الطبخات المغربية دون أن تعرف مكوناتها الدقيقة ولا أسرار غليانها على النار، لكنها خلال فترة الحجر الصحي دخلت في تنافس مع صديقاتها اللاتي أعددن طعاما ونشرن صوره على مواقع التواصل الاجتماعي.

في هذا التحدي الذي دخلت فيه صديقاتها في مجموعة تحت اسم “الحادكة”، وهو لقب يطلق على كل امرأة تتقن إعداد الأكلات المغربية بامتياز، تعلمت الكثير من أمها وأختها الكبرى، لكنها تؤكد أن ما تعلمته وما يتداول اليوم ليس إلا نزرا قليلا من المطبخ المغربي العريق والمتنوع.

وتنبع أهمية المطبخ المغربي الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم، من أنه خليط من المطابخ الأفريقية والإسلامية والمتوسطية والبربرية أو الأمازيغية والأندلسية، ولهذا يأتي في المرتبة الثانية عالميا وفي المرتبة الأولى أفريقيا وعربيا.

ويؤكد الباحث في تاريخ الطبخ المغربي هشام الأحرش، أن المطبخ المغربي يتميز بكونه مطبخا منفتحا على مختلف الحضارات، ويعكس بجلاء تلاقحها على أرض المغرب، فهو يجمع بين الأصول البابلية (أي قبل 3 آلاف سنة)، والروافد الإغريقية والرومانية والفنينقية، مرورا بأرض العراق مرة أخرى زمن الخلافة الإسلامية.

أشهر طبق شعبي
أشهر طبق شعبي

لكن هل يقبل هذا المطبخ المتنوع ومتعدد المشارب ما تقدمه الفضائيات من وصفات غربية وآسيوية وما أتت به المطاعم العالمية من همبرغر ومايوناز انتشرت في المغرب، ونشطت خلال فترة كورونا فوصل طعامها إلى البيوت المغربية واجتمعت عليه عائلات تزخر مطابخها بالمؤونة والبهارات؟

المتابع لمواقع التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك الأكثر انتشارا في المغرب، يشاهد صورا وتعليقات لشباب وصبايا من المغرب يتفاخرون بما أعدوه من بيتزا وسباغيتي، هذا بالإضافة إلى خدمات التوصيل التي اعتمدتها المطاعم التي تعدّ أكلات عصرية وشهدت رواجا كبيرا، فمن يشتاق إلى أكلة مغربية يطلبها من والدته أو جدته، ذلك يعني أن هذه المطاعم كان أغلب ما تعده أكلات عصرية دخيلة على المغرب.

وتعبر خبيرة التغذية أسماء زريول، عن أسفها للحجم الهائل من التغييرات الرئيسية التي تجتاح هذا النظام الغذائي بسبب تأثير التغيرات المحتدمة لأنماط الحياة، والمتميزة على الخصوص بالانبهار بالنموذج الغربي وعاداته الغذائية التي تروج لها وسائل الإعلام والتكنولوجيات الجديدة، بما يحيل على أن أساليب الحياة الأجنبية آخذة في غزو جميع شرائح المجتمع من خلال تقنيات تقوم على إغراء الجمهور الواسع.

وأضافت أنه يجري التشجيع على تبني النموذج الغربي واستهلاك منتجات هي في الغالب مضرة بالصحة (رقائق الذرة أو البطاطس، وبعض أنواع الزبدة والمشروبات الغازية والوجبات السريعة) التي تبقى من الأطعمة الخالية من أية قيمة غذائية.

وأشارت إلى أن العديد من المحلات العالمية وسلاسل الوجبات السريعة التي تنتشر في كل مكان، تؤثر حاليا على نموذج عيش المغاربة، بل وأصبحت نقاط جذب تستقطب الكبار والصغار داعية إياهم لاكتشاف هذا العالم الجديد.

وأبرزت أن هذا التغيير يعزى أيضا إلى ولوج المرأة لسوق العمل واعتماد التوقيت المستمر، وهو ما يدفع الناس عموما إلى استهلاك الوجبات السريعة مع أنها “ذات قيمة غذائية سيئة للغاية”.

من جانبه، أعرب الشاف الهادي، المتخصص في الطبخ، في تصريح مماثل، عن أسفه لاختفاء عدة أطباق من المائدة المغربية، مؤكدا أن الانفتاح على الآخر لا يعني التخلي عن الهوية الثقافية في شقها المرتبط بالطبخ.

واعتبر أن “الأدوار باتت معكوسة على اعتبار أن الغرب أدرك مزايا النظام الغذائي المغربي، في حين أن المغاربة أخذوا يبتعدون عن تقاليدهم، من خلال الإقبال على استهلاك المنتجات المصنعة الغريبة عن ثقافتنا”.

وأضاف أن المطاعم تسهم من جهتها في هذا التغيير عن طريق تفضيل الأطباق الغربية كما يتضح من خلال قائمة الطعام التي تقدم للزبائن، موضحا أن “غالبية الأطباق المقدمة هي غريبة عن مطبخنا”، مبيّنا مقابل ذلك، أن الأطباق الموسمية التي تميز المطبخ المغربي بدأت هي الأخرى تختفي.

التوابل سر الطعام
التوابل سر الطعام

يمتاز المطبخ المغربي بأطباقه العريقة وبقيمته الغذائية الكبيرة، وهو ما يشدد عليه الأخصائي في التغذية نبيل العياشي، الذي أبرز أن النظام الغذائي المغربي يتفوق بتواجد مجموعة من الأغذية التي لا نجدها في أي بلد آخر، وتنفرد بمكوناتها التي تجمع بين عناصر غذائية متكاملة.

ويتأسف العياشي “لكوننا أصبحنا نلاحظ أن الاهتمام بها صار ضعيفا، بسبب الإقبال على الأنظمة الغذائية الغربية والتسويق لها بقوة، وابتعدنا عن مجموعة من العادات المفيدة للجسم والتي تقيه من مجموعة من الأمراض”.

وعن علاقة التحولات الاجتماعية بتغير العادات الغذائية للمغاربة، يوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط سعيد بنيس، أن دخول العهد الرقمي أسهم في تلك التحولات، حيث اكتشفنا وصفات جديدة أقبلت عليها كل الفئات العمرية في إطار تجريب مطابخ أخرى جديدة.

وبالنسبة إليه، فإن تغير العادات الغذائية داخل المجتمع المغربي أسفر عن نوع من “الاغتراب المطبخي” في المائدة المغربية، وهو ما يطرح تساؤلات بخصوص تدبير الثقافة الغذائية، لاسيما بالنسبة للأطفال الذين هم في حاجة لوجبات ذات قيمة غذائية عالية ومفيدة.

خلاصة القول أنه، أمام تنامي الصناعات الغذائية عن طريق الانتشار الواسع لمحلات وسلاسل الوجبات السريعة، فإن المطبخ المغربي، الذي يصنف على أنه يقدم أفضل المأكولات في العالم، لا يزال يقاوم من أجل تأمين حضوره والحفاظ على طابعه الأصيل، ونكهاته وتنوعه وفوائده الغذائية.

20