رئيس قبطي للمحكمة الدستورية في مصر خطوة ذات أبعاد سياسية

الرئيس المصري يهدّئ قلق الأقلية القبطية ويغازل الخارج.
الجمعة 2022/02/11
أول قبطي على رأس أعلى محكمة مصرية

وجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بتعيينه المستشار القبطي بولس فهمي رئيسا للمحكمة الدستورية رسائل سياسية إلى الداخل والخارج. ويسعى السيسي من خلال هذا التعيين لتهدئة الأقلية القبطية المطالبة بانفتاح أكبر على المناصب العليا، كما يخدم هذا القرار صورة مصر في الخارج.

القاهرة – تضمّن قرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تعيين المستشار بولس فهمي رئيسا للمحكمة الدستورية العليا الكثير من المعاني السياسية، فهو أول رئيس قبطي لأعلى محكمة في البلاد، وجاء في وقت بدأ فيه نظام الحكم يبشر بالجمهورية الجديدة التي تستهدف مفرداتها استيعاب الجميع في نسيجها المدني والوطني.

وظل الأقباط في مصر (يصل عددهم إلى نحو 15 مليون نسمة من جملة السكان المقدرين بحوالي 110 ملايين نسمة) يهمسون تارة ويصرخون تارة أخرى بأن حقوقهم مهضومة في تولي المناصب العليا، أو على الأقل لا تتناسب المناصب التي يتولّونها مع عددهم.

وحاول الرئيس السيسي -الذي استقبل فهمي في القصر الرئاسي لأداء اليمين الدستورية الأربعاء- منذ توليه الحكم ضبط الخلل الواضح تدريجيا واستجاب للكثير من المطالب المتعلقة بمسألة الوظائف العليا بما لا يحدث فتنة بين المسلمين والأقباط، ومنح الكنيسة مزايا فُهمت على أنها رد جميل لموقفها المؤيد لثورة الثلاثين من يونيو 2013 التي أطاحت بحكم الإخوان في مصر وفتحت الطريق أمام السيسي لتولي منصب رئيس الجمهورية.

وجرت إعادة بناء العشرات من الكنائس التي تعرضت للحرق والتدمير على يد عناصر إخوانية ومتطرفة عقب ثورة يونيو، وتم منح تراخيص جديدة وترميم المئات من الكنائس ومنحها مشروعية إقامة الصلوات فيها، وبدأ الأقباط يشعرون بوجود تحسن كبير في أوضاعهم وبأنه بدأ يطبق عليهم ما يطبق على المسلمين في الحقوق والواجبات.

كمال زاخر: الخطوة تكرس مفهوم المواطنة وتدعم ركائز الدولة المدنية

ويعد اختيار الرئيس الجديد للمحكمة الدستورية رسالة بالغة الأهمية تشير إلى أن مصر منحازة إلى الدولة المدنية انحيازا تامّا؛ فأعلى محكمة في البلاد مسؤولة عن مطابقة القوانين مع الدستور يرأسها قبطي يحظى بثقة رئيس الدولة الذي اختاره من بين أقدم أربع شخصيات في هذه المحكمة، وكان هو القبطي الوحيد بين هذه الشخصيات.

وأكد المفكر القبطي كمال زاخر لـ”العرب” أن “الخطوة تتعلق بتكريس مفهوم المواطنة ودعم ركائز الدولة المدنية، فمن حق رئيس الدولة الاختيار باقتراح من المحكمة الدستورية نفسها، وهي أعلى نقطة في منظومة القضاء، وحرصها على إعمال القانون من قبلها زاوية مهمة للأقباط”.

وذكر أنها رسالة مهمة للدولاب الرسمي في الدولة والمجتمع والناس، فمصر أمام جمهورية جديدة حريصة على تعميم فكرة المواطنة، وسبقتها خطوات مهمة تؤكد أن هناك إصرارا من الرئيس السيسي على وجود كنيسة في كل مجمع سكني جديد.

وشدد زاخر على أن فهمي رمز لنهاية التطرف وإعمال القانون، وأن الدولة بدأت تنظر إلى ذلك بجدية بعيدا عن أي انتماءات طائفية، وهي مسألة قد تكون مقدمة لتأهيل الشارع والتفكير في إعادة كتابة الدستور بشكل واقعي لدعم الدولة المدنية.

ويضاعف القرار شعبية الرئيس السيسي في صفوف الأقباط ويعزز تأييدهم له، فما حصلوا عليه خلال فترة حكمه يقترب من وضعهم النموذجي قبل ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، حيث تبوأت شخصيات قبطية عديدة مناصب رفيعة وأسهمت في دعم الحركة الوطنية بصورة كبيرة وكانت المواطنة عنوانا رئيسيا في مصر.ويقول مراقبون إن النظام المصري أراد التأكيد على أن الجمهورية الجديدة التي يتم الحديث عنها ترفع شعار التسامح كأساس للحكم، وترفض عودة الإسلاميين إلى الانخراط في الحياة السياسية طالما لم يتراجعوا عن مواقفهم ويتخلوا عن ممارسة العنف.

ويضيف المراقبون أن رسالة السيسي لا تقتصر على الداخل، إذ تردد بعض القوى الغربية انتقاداتها له وتركز على ملف حقوق الإنسان والحريات، وأحيانا اضطهاد الأقباط، وتحصر الحكم على نظامه في الشق السياسي بينما للأمر أبعاد تتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والمساواة التي تحاول القاهرة أن تحقق أيضا تقدما فيها.

ويملك رئيس المحكمة الدستورية سيرة ذاتية تتناسب مع طبيعة منصبه، فله العديد من المؤلفات والأبحاث القانونية، وعمل مستشارا فنيا لوزير العدل، ورئيسا لمحكمتي جنوب القاهرة وحلوان، وشارك في إصدار عدة أحكام في المحكمة الدستورية وأشرف على الأمانة العامة فيها منذ أكتوبر 2014.

وتشير الكفاءة التي تتضمنها سيرة بولس فهمي إلى أن معيار الاختيار هو الجودة حتى لو فهم البعض أن الخطوة لها مضامين سياسية، ولم يتم اختيار الرجل لأنه قبطي فقط، فهو يمتلك من المهنية ما أهله للحصول على هذا المنصب ، وهي إشارة تحدد المعيار الذي يختار وفقه من يشغلون المناصب العليا.

اختيار الرئيس الجديد للمحكمة الدستورية يعد رسالة بالغة الأهمية تشير إلى أن مصر منحازة إلى الدولة المدنية انحيازا تامّا

ويسهم هذا النوع من الاختيارات في تحقيق أهداف متباينة جميعها تصب في صالح الجمهورية الجديدة التي تريد أجهزة الدولة خلق انطباع بأنها مختلفة، وثمة مكونات رئيسية مثل الكفاءة والمواطنة والعدالة والكرامة تحتل مكانة متقدمة في أبجديات هذه الأجهزة.

وأوضح باحث قبطي (رفض ذكر اسمه) أن تعيين بولس فهمي أزاح عنه شخصيا شبحا ظل يراوده طويلا ويتمثل في أن يكون التغيير الحاصل في المعاملة منصبّا على القشور الخاصة بالشعائر وبناء الكنائس وترميمها وبعيدا عن الجوهر.

وقال لـ”العرب” إن سعادته بوجود قبطي على رأس المحكمة الدستورية “لها دلالات لا يدركها إلا من سبق أن اقتنعوا بأن الوظائف العليا تقتصر على المسلمين، ومن يتسللون إليها من المسيحيين قلة لذر الرماد في العيون، وتوالي الخطوات الإيجابية بدأ فعلا يبدد الكثير من المشاعر السلبية التي سيطرت على شريحة كبيرة من الأقباط”.

وتوقعت بعض المصادر عدم استبعاد حدوث استهداف لعناصر قبطية أو دور عبادة مسيحية كمحاولة لإجهاض ما حملته الخطوة الجديدة من إشارات إيجابية، والنفخ في المقومات التي تقود إلى نشر الفتنة الطائفية في مصر بين المسلمين والأقباط.

ولفتت إلى أن الخطوات التي اتخذتها الأجهزة الأمنية ضد المتطرفين لتوفير حماية جيدة للكنائس قللت من استهدافها خلال الفترة الماضية، أو تلاشى هذا الاستهداف. لكن هذا لا يعني توفير الاستقرار التام، فهناك عوامل أخرى يمكن اللجوء إليها لإشعال نار الفتنة من خلال النيل من أقباط في قرى نائية وافتعال أزمات توحي بفتح الباب للاحتقان.

2