"رأس قديم".. تراجيديا سينمائية عن حرب الخليج وضحاياها

لا شك أن عنصري الزمان والمكان يشكلان ركيزتين أساسيتين في سينما الخيال العلمي، فالخروج عن حدودهما والذهاب بعيدا في اختراق الجغرافيا والأزمنة المختلفة لا تستغني عنهما العديد من التجارب في هذا النوع الفيلمي.
قدّمت أفلام الخيال العلمي قراءات مختلفة للزمان والمكان، ومن ذلك أن يتحول الماضي إلى عنصر دافع لما هو خيالي ومتجاوز لسطوة الواقع، وفي فيلم “رأس قديم” ينطلق مخرجه سيرج ليفين من ذلك الماضي العنيف للدخول في حاضر معقد ومليء بالتحولات.
وما ذلك الماضي في هذا الفيلم سوى حدث عالمي مدوّ، ألا وهو وقائع حرب الخليج الأولى، حيث المشاهد الأولى هي لجنود أميركا وهم يلتقطون الصور التذكارية بقاعدة الناصرية في جنوب العراق.
مشهد يقابله على الطرف الآخر صدى خطاب النصر الذي يلقيه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، وهو يمجّد الجنود المحاربين معلنا النصر على الجيش العراقي.
لكن نشوة النصر هذه ليست متوفرة بالنسبة لسام (الممثل جارلز بيكر)، بل إنها كآبة قاتلة وحزن مرير من جراء فقدان شقيقه في تلك الحرب، ما يدفعه إلى محاولة الانتحار.
وفي إطار من الفانتازيا القاتمة يتم إنقاذ سام ليتحول إلى فأر تجارب لقدراته الاستثنائية ومحاولة الولوج إلى مخزونه العاطفي، بما في ذلك ما اختزنه عن شقيقه المحارب، وذلك في إطار برنامج حكومي يستهدف العائدين من الحرب وأشخاص آخرين مختارين، يكون سام من بينهم.
ومنذ تلك الخطوة التي يجد فيها سام نفسه مسلوب الإرادة ومربوطا بنظام إلكتروني محكم، سوف تتكشّف قدرات خارقة لديه والتي سوف يستخدمها لاحقا للانتقام من خصومه في العمل الذين ما انفكوا يسخرون منه ويحطون من قيمته.
وما بين ذلك ليس إلاّ سلسلة من الجلسات التي هي أقرب إلى الصعق الكهربائي الذي يحطم سام تدريجيا في أداء شديد القسوة يقوده الدكتور لورو (الممثل مياكل إيرونسايد) الذي يدرك جيدا قدرات سام وشقيقه ويجد في ما يفعله فرصة للوصول إلى النتائج التي وضعت لإخضاع المحاربين وذوي القدرات الخاصة لتجارب شديدة التعقيد.
ومع المشاهد الأولى تجلت براعة المخرج وفريقه في صناعة المشاهد بعناية متناهية ساعده في ذلك الأداء المتقن لسام، ومع ذلك بدت في المقابل جلسات التجارب العقلية والفيزيائية ليست بمستوى تلك البدايات، فأجهزة الكمبيوتر القديمة وحاويات المياه لم تقدم إقناعا كافيا، لكن خروج سام إلى الحياة هو الذي حقق هذه الموازنة.
وفي هذه الدراما الفيلمية المتصاعدة سوف يتحول سام إلى هدف وملكية شخصية للبروفيسور لورو، ولهذا فإنه يراقبه وهو يفتك بخصومه، ولكنه لا يقوى على استخدام تلك القوى تجاه لورو نفسه.
القدرات الخارقة بالنسبة إلى سام هي التي تأسست عليها تلك الدراما الفيلمية القاتمة، فهو إذ نجا من موت محقق بسبب محاولة الانتحار، فإنه يلجأ إلى الانتقام ممّن هم حوله.
وخلال ذلك تبلور بناء سردي متقن قوامه التنقل بين الأزمنة وساعدت في تعميقه المرونة في الانتقال بين الأماكن، إذ تجد سام وهو يسبح في لاوعي غير محدود أو محلقا في فضاء مجهول، ولكنه خلال ذلك لا يكاد يفارق شقيقه المحارب.
الحوار بوصفه أداة مساعدة في هذا الفيلم تميز باختصارات ملحوظة واقتضاب شديد، خاصة بالنسبة لسام الذي ظل بالكاد يعبّر عن نفسه معلنا بشكل غير مباشر عدم انتمائه لمن هم من حوله.
إنسان هائم على وجهه وغريب وبعيد عن الواقع المعيش ولا ينتمي إليه، تلك هي الخلاصة التي تتعلق بسام بوصفه الشخصية الدرامية الرئيسية، هذا الاستلاب والاغتراب قدما صورة تراجيدية غير مباشرة لضحايا حربي الخليج، من حيث إصابتهم بمتلازمة ما بعد الصدمة التي تسبب في تفشي حالات الانتحار شبه اليومي للجنود العائدين من الحربين.
أفلام الخيال العلمي قدّمت قراءات مختلفة للزمان والمكان، ومن ذلك أن يتحول الماضي إلى عنصر دافع لما هو خيالي ومتجاوز لسطوة الواقع
وفي المقابل تتعملق المؤسسات المرتبطة بالحكومة الفيدرالية التي تحوّل هؤلاء إلى مجرد فئران تجارب ربما من أجل حروب مقبلة، وذلك بتجريد تلك الكائنات من الكثير من خواصها الإنسانية ومشاعرها للوصول إلى أبعد النقاط الحسّية واللاواعية في الكائن البشري.
وكثف الفيلم من أجل تقديم حصيلة بصرية متنوعة من استخدام الغرافيك والمونتاج وحركة الكاميرا وزوايا التصوير المعبّرة عن الشخصية المأزومة سام، وخلال ذلك استطاع المخرج في حدود مساحة الزمن الافتراضي التي تجري فيها الأحداث أن يقدم حصيلة بصرية كثيفة وغزيرة ومتنوعة.
وواقعيا، كان ذلك الحل البصري المتنوع والغزير بمثابة تنويع على القتامة والسوداوية التي حفلت بها أحداث الفيلم، فضلا عن دقة اختيار الممثل الذي أدى شخصية سام، ففيه كل مواصفات الشخصية السيكوباثية، فضلا عن مساحة التمرد لديه وانتقامه من سطوة النظام الصارم المحيط به.
وكما ذكرنا آنفا، فإن الفيلم انطوى على مغامرة مميزة في التنويع على عنصري الزمان والمكان والخروج منهما عبر الأزمات التي تعصف بالشخصية وتنقلها إلى عالم آخر، أي جغرافيا أخرى وزمن آخر، أو من خلال سيل التجارب التي تتعرض لها.