ذباب الإعلام يدافع عن نفسه لا عن القصور

إذا كنت تعتقد أن الإعلام في العالم العربي يغرق بالمطبلين، فلست على الصواب. تعال إلى بريطانيا لترى التطبيل على حقيقته.
توجد هنا طبقة كاملة من المتخصصين بأعمال التطبيل الذين يعيشون على فتات موائد القصر. هذا في بلد يزعم أن صحافته حرة. وهذا في صحافة ليست مضطرة، كما هو الحال بالنسبة إلى صحافة العالم العربي، للعيش على تمويلات حكومية.
لا يمر يوم من دون قصة أو أكثر عن حدث ما يتصل بالقصر وعلاقات أفراده. فضيحة من هنا، وتشهير من هناك، واستعراضات لفضائل من هنالك، يتكفل بتسريبها “متخصصون” آخرون يقفون في الوسط بين المائدة والذباب.
وبطبيعة الحال، فإن الذباب ينقل عن “مصادر” مكتومة دائما. وفي حين أن الكثير من تلك القصص مجرد اختلاقات لا تستند إلى الحقيقة، أو تستعين بشيء طفيف منها، فإن القصر و”أطرافه” يستعينان بالصمت على الحق والباطل في آن معا، مما يوفر الموارد اللازمة لبث الإشاعات والتغطية على فضائح وكشف بدائل لها، والانشغال بفيض لا ينضب من توافه الأمور. وحيث أن المادة الخبرية شحيحة عادة (إذ ما هو الخبر عن مائدة فطور حدث أنها شملت أو لم تشمل البيض أو البسكويت) فإن التفاصيل الصغيرة الأخرى توفر مادة بديلة لا أول لها ولا آخر عن ملابس الأمير أو الأميرة، و”لغة الجسد”، ولون الحذاء، وما إذا كانت إشارات اليد تنطوي على شيء، فتتحول إلى مليودراما أهم من المعركة حول مدينة باخموت في أوكرانيا التي أصبحت “مفرمة لحم” يومية. فالكباب الذي تقدمه قصص القصر ليس كالكباب البشري الذي يتم طحنه في الحرب، أو في الغلاء، أو في عجز مؤسسة الصحة الوطنية عن توفير الأسرة للمرضى، فيموت بعضهم وهم في سيارات الإسعاف.
الصحافة الصفراء في بريطانيا لا تتلقى مالا لكي تمارس التطبيل. إنها تصنع الشهرة والنفوذ والمال، تحت غطاء التطبيل
معاناة الأمير هاري، شقيق ولي العهد، مع “الصحافة الصفراء” هي ما صنع مذكراته (الاحتياطي) التي قلبت عالي الدنيا سافلها في المحروسة. ومن قبل أن يتم توزيع الكتاب بالفعل، واعتمادا فقط على ترجمات انتقائية مسربة (سلبية على وجه الخصوص) عن النسخة الإسبانية التي صدرت قبل النسخة الإنجليزية، فقد تجندت فرقة ميليشيا صحافية كاملة للتشنيع به، ولإظهار أنه يريد أن يدمر الأسرة المالكة، وأنه يقوم بعملية انتحارية ضدها، وأنه يمارس انتقاما لا يليق بمكانته (ما بقي منها على الأقل) بل وأنه يخون الثقة أيضا.
أحد أكثر الانتقادات قسوة، وأكثرها طرافة، بل وأكثرها كشفا عن الطبيعة المنافقة لمن هم أكثر من مجرد تلك الفرقة، جاء من ضباط عسكريين نددوا باعتراف الأمير هاري بأنه خلال خدمته في أفغانستان قتل 25 عنصرا من طالبان. الانتقاد تركّز على أنه ما كان يجب أن يقدم اعترافا بهذا الشأن. وذلك على اعتبار أن بريطانيا عندما ذهبت الى أفغانستان، وعندما شاركت في غزو العراق من بعدها، إنما فعلت ذلك لأجل زراعة القرنفل الأحمر، وليس سفك الدماء.
ولئن عِيبَ على الأمير هاري أنه تلقى 20 مليون دولار لقاء كتابه، فلم يُعاب على بعض مؤسسات القصر أن “جمعياتها الخيرية” تحصل على تبرعات من فاسدين مشهورين، مقابل “خدمات” توفرها الطبقة التي تقيم بين المائدة وذوي الياقات البيض.
صحافة التطبيل البريطانية، ليست صفراء فحسب. إنها صحافة مسمومة إلى درجة أنها يمكن أن تنفث سمومها على أي أحد. ليس ذلك لأنها تدعم “القصر”، بل لأن تلك هي “الصنعة”.
يتضح الآن أن السموم عندما تكثر، فإنها تصيب بالضرر حتى من تعتقد أنها تدافع عنه. وبدلا من أن تكون عاملا من عوامل رأب الصدع وقبول الحقيقة بالتعامل معها من دون ضغائن، فإن ضغائنها تتحول إلى أداة مكشوفة من أدوات التدمير الذاتي.
تدافع هذه الصحافة عن نفسها وعن وسائلها الرديئة بالأحرى عندما تهاجم الأمير هاري. لا يهمها القصر. إنها فقط تتغطى بولاء مزيف له.
لا حاجة الى القول إن المؤسسة الملكية، كما عهدها البريطانيون في ظل الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، وكما يمضي الملك تشارلز الثالث على خطاها، تعد عاملا مهما من عوامل الاستقرار، والهوية، وسلطة القانون والديمقراطية، واحترام التقاليد.
لا حاجة أيضا إلى القول إن هذه المؤسسة هي مؤسسة بشر. ومن غير العجيب أن تحدث في داخلها خلافات، وطلاقات مريرة وفضائح.
الذباب هم المشكلة. وعندما يتم الانزلاق إلى خنادقهم، فإنها سرعان ما تخرج عن السيطرة.
القصر الذي يستعين على قضاء شؤونه الأسرية بالكتمان، ما كان ليُجيز للذين يمارسون دور “المصادر” أن يخوضوا في معركة تشنيع ضد الأمير هاري، أو ضد أمه الأميرة ديانا من قبله. وها هي العواقب تتحول الآن إلى فضيحة تنتهك الحواجز وتستصرخ المكتوم.
الصحافة الصفراء في بريطانيا لا تتلقى مالا لكي تمارس التطبيل. إنها تصنع الشهرة والنفوذ والمال، تحت غطاء التطبيل.
إذا استثنيت مواقع الذباب، فنادرا ما تجد صحافة صفراء في العالم العربي. والقلة من المطبلين تحسب أنها تقدم “خدمة وطنية”. والسلطات التي تدعمها، إنما تنتظر منها هذه الخدمة بدواعي المحافظة على الاستقرار، ولكي لا تخسر في معركة الإعلام عندما تواجه إعلاما مضادا.
حاجة الإعلام العربي إلى الدعم الحكومي، أمر يتعلق بواقع “السوق”. فعدا عن أن صناعة المادة الإعلامية باهظة التكاليف، فإن “السوق” لا يرد لها ولا حتى عشر معشار تلك التكاليف.
بعض أهل “الكار” عندنا، يحاولون التصرف كذباب، وينظرون إلى الصحافة الصفراء في بريطانيا على أنها نموذج يمكن السير على نهجه في ممارسة “الردح” (الوطني)، ويتساهل معهم “القصر” ربما لأن بعض أركانه يجد في شعبويتهم ما يوفر الإمتاع.
ولكن لن يطول الوقت حتى تكتشف أنهم يهدمون “القصر” من حيث يعتقدون أنهم يدافعون عنه.
فالحقيقة هي أنهم، مثل الصحافة الصفراء في بريطانيا، يدافعون عن أنفسهم وعن وسائلهم الرديئة. بفارق بسيط، هو أنهم يتلقون المال لكي يمارسوا التطبيل، ولا يصنعوه.