"ذاكرة".. مسرحية تونسية تبحث عن العدالة التي دفنها السياسيون

من المعروف عن المسرح التونسي اشتباكه الدائم مع القضايا السياسية، هذا الاشتباك الذي فرض على الأعمال المسرحية أن تنوع طرحها لتحقق بصمتها الخاصة، فلا يكون بذلك المسرح فن احتجاج وصراخ فقط، بل فن البحث في أعماق كل إنسان لاستخراج حكايته وفكرته، وهو ما نراه في مسرحية “ذاكرة” التي قدمت أخيرا في تونس.
تونس - احتضن فضاء مسرح المبدعين الشبان بمدينة الثقافة التونسية أخيرا مسرحية “ذاكرة” التي كتبت نصها الممثلة صباح بوزويتة اقتباسا لنص “العذراء والموت” للكاتب الشيلي أرييل دورفمان وأخرجها سليم الصنهاجي. وهو عمل يندرج ضمن فعاليات الدورة الـ22 لأيام قرطاج المسرحية خارج المسابقة الرسمية.
وأدى أدوار هذه المسرحية كل من صباح بوزويتة (في دور كنزة) ورضا بوقديدة (الطبيب) وعبدالقادر بن سعيد الذي تألق في تقمص شخصية الزوج (مرتضى) في تعويض مؤقت للممثل علاء الدين أيوب الذي تغيب بسبب المرض.
ضحية تتذكر
العمل يطرح مسألة العدالة الانتقالية وفساد السياسيين وفشل الثورة في تحقيق الكرامة انطلاقا مما عاشته امرأة
تعود بنا المسرحية إلى فترة ما قبل الثورة وما عاشه المواطن من ذل ومهانة من قبل السلطة الحاكمة، حتى بعد انتفاضته ضد الظلم تحت غطاء الثورة يجد نفسه مرّة أخرى يقاوم ضد الفساد لفرض الحرّيات واحترام الذات الإنسانية وتحقيق العدالة التي أصبحت مجرّد حبر على ورق ولا تطبّق على أرض الواقع، خاصة وأن البلاد أصبحت بين أيدي الانتهازيين والطامعين في السلطة والمال على حساب المبادئ والقيم.
منذ البداية يجعل المخرج الجمهور محتارا وراغبا في اكتشاف الشخصيتين الرئيسيتين: رجل وامرأة يدخلان مكانا ما ويحمل كل منهما حقيبة، الرجل يتحسس جسمه، يحاول أن يتخلص مما علق بثيابه. المرأة تنهش لحمها نهشا، تبحث بدورها عن شيء ما في حقيبتها وتنفض أيضا عن جسمها ما علق بها. تتعالى موسيقى الكمان وتتسارع مع تسارع حركة الممثلين وتغير نفسياتهم بسبب خطب ما.
هما زوجان تتشابه عندهما الأزمنة والأمكنة، بل حتى الأسماء قد تختلف، فقد تكون هي كنزة أو كلثوم وقد يكون اسمه مرتضى أو الطرودي.
وينطلق المخرج من وضع خاص بهاتين الشخصيتين، ليتوسع إلى وضع أشمل يتعلق بالوطن وبمدى احترام ما جاء في الدستور في الباب الخاص بالحقوق والحريات.
العمل يطرح بقوة مسألة العدالة الانتقالية انطلاقا مما عاشته البطلة من ظلم وتعذيب والتأثيرات النفسية والجسدية عليها نتيجة الاغتصاب الذي تعرضت له من طبيب بقبو وزارة الداخلية حين تم إيقافها والتحقيق معها عند البحث عن زوجها المحامي الذي كان معارضا شرسا للنظام.
الضحية كادت تفقد صوابها، ودخلت مستشفى الأمراض العقلية، لا فقط نتيجة ما تعرضت له من تعذيب واعتداء بل كذلك نتيجة خذلانها من قبل زوجها الذي “لا يرى فائدة في فتح الجروح القديمة”، خاصة في ظل غياب شهود عن الحادثة، بل يطلب من زوجته نسيان ما حصل وترك الأمر للقضاء.
لكن الزوجة التي تعلم جيدا أن زوجها أصبح مهادنا للسلطة ولا يرغب في معاداتها تتمسك بحقها بشدة إذ تقول “سامحت لكنني لم أنس… يلزمني اعتراف في حجم ما عشته”، هذا الاعتراف الذي يتأخر كثيرا نتيجة إنكار المجرم (الطبيب) لأفعاله المخالفة للقوانين والفاقدة للإنسانية، وهو الذي من المفروض أن يكون المؤتمن على حماية صحة الموقوفين وضمان إجراء التحقيق في كنف الاحترام للقوانين وللحرمة الجسدية.
وتبدع صباح بوزويتة في تقمص شخصية هذه الضحية، فكانت تستحضر ما حصل، بكلمات كالخنجر تخرجها من صدرها لتشفى مما هي عليه وتذكّر بها المجرم (الطبيب) الذي أنكر معرفته بها، وكانت تذرع المكان جيئة وذهابا في حركة تربك المجرم والزوج الذي أصبح، من المفارقات، بعد الثورة عضوا في هيئة المصالحة.
تساؤلات وتقلبات
العمل ينقد بشكل جلي ممارسات رجال الأمن تجاه المعارضين للسلطة في السابق كما ينقد ما حصل في الهيئة المكلفة بمسألة العدالة الانتقالية، ويعيد إلى السطح ما عاشه التونسيون من حيثيات تتعلق “بجبر الضرر والتطمينات والتعويضات”، كما يندد بما حصل في هذا السياق من توافقات ومن “تلاعب بالملفات” تقول البطلة “فوق الطاولة وتحت الطاولة… بحجة الحوار”.
تساؤلات عديدة تطرحها صباح بوزويتة وسليم الصنهاجي من خلال هذا العمل: من ضحية من؟ وما معنى ضحية؟ وكيف يمكن جبر الضرر؟ ثم من يحمي المجرمين الذين مازالوا طلقاء إلى اليوم؟ وكيف يمكن الحديث عن عدالة انتقالية في ظل توافقات سرية وعدم اعتراف بالجرم؟ فقبل المصالحة لا بد من فتح كل الملفات ورد الاعتبار للمظلومين، إذ أن حقوقهم لا تسقط بالتقادم… إنها ذاكرة تأبى النسيان.
عادت بنا “ذاكرة” إلى سنوات مضت عاشت من خلالها تونس تقلّبات سياسية واجتماعية كبرى طغى عليها الظلم والانتهازية والخيانة، حتى أصبحت العدالة مطلبا يصعب الوصول إليه مما شرع لبعضهم أن يبحثوا عن تحقيق العدالة بأنفسهم.
بين التفاؤل والتشاؤم، بين النور والظلام اللذين ميّزا إضاءة الركح الذي يوحي للمتفرج بأنه قبو، تطلق “كنزة” العنان لذاكرتها لتسترجع آلامها؛ خيانة أقرب الناس إليها، وجع الظلم والقهر من الأحداث المؤلمة التي تعرّضت لها على يد طبيبها المغتصب الذي استغّل التسيّب والوضع المزري في ظل الانفلات الأخلاقي والقضائي، إذ أصبح من السهل الإفلات من المحاسبة، وزوجها المحامي الذي آثر حياته الشخصية ومطامعه من أجل السلطة والمال واعتلاء مناصب مرموقة في الدولة مقابل السكوت واعتبار أن ما حصل لزوجته أمر عادي ويعوّض بالمال والجاه على حساب كرامته وكرامة زوجته المطعونة في كبريائها.
ويقدم العمل نقدا واضحا للطبقة السياسية، إذ ينبش الماضي في محاولة لمعالجة الوضع الراهن مستحضرا فترة سوداء عاشتها تونس بعد الرابع عشر من يناير، حيث عرفت اغتيالات وصراعات سياسية ساهمت في تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية في بلاد صار فيها الاغتصاب والسرقة ونهب الأموال من الأمور العادية لا من حسيب ولا من رقيب، بينما السياسيون يتصارعون من أجل خدمة مصالحهم الضيقة ولا أحد يعمل من أجل الشعب الذي يعاني ويلات الظلم والاضطهاد والتهديد والفقر الذي استمر قبل الثورة وتكرّس أكثر بعدها.