دينا حدادين فنانة تجريبية تنفتح على المستقبل

التصميم والعمارة يتداخلان. فنان يكمل أحدهما الآخر. يستضيفه ويستفزه جماليا ويقوي عزيمته. غير أن الرسم يحضر بينهما بقوة، لا باعتباره فنا خالصا بل باعتباره وسيلة للتعبير عن الطاعة.
الـ”باوهاوس” رفضت ذلك المنطق حين استجابت لخيال الرسم. وهو ما دفع رسامين كبار بمستوى بول كليه إلى أن ينتسبوا إليها من غير أن تفرض عليهم نوعا من الرقابة الوظيفية.
في الثناء على المكان
الأردنية دينا حدادين تشق طريقا لم يألفه المشهد الفني في العالم العربي انطلاقا من ثلاثية “الرسم والتصميم والعمارة”. ذلك هو التسلسل الذي اعتمدته وهي تقدم ممارسة الرسم في سياق رؤية تعبيرية حرة على العقلانية التي تغلب على فني التصميم والعمارة.
غير أنها لا تخفي، هنا، أنه ما كان بإمكانها أن تكون رسامة بشخصية أسلوبية مختلفة، لولا ما تعلمته من التصميم والعمارة. فما من شيء في عالمها الفني، إلا ويذكر بأسئلة الفنين اللذين يحتفيان بالمكان في كل لحظة إلهام.
حدادين لا ترى المحيط إلا من خلال عيني المهندسة التي تثق بعبقرية المكان، بكل ملحقاته وفي مقدمتها الفراغ. إنها تناور من خلال الرسم لكي تفهم العلاقة الخفية بين المكان والفراغ رغبة منها في التسلّل إلى منطقة “ما بعد الفراغ” وهو الواقع المتخيّل الذي سينتقل بها إلى الاهتمام بمساءلة الهوامش. سيكون من الصعب عليها في حالة من ذلك النوع أن تدير ظهرها إلى الإنسان الذي يذوب في المكان وبالقوة نفسها يكتشف ذاته في الفراغ.
هناك جغرافيا مفتوحة على متاهات متعددة، العامل المشترك بينها أنها تجمع بين ما هو حسّي وما هو روحي في إطار الدفاع عن القيمة الرفيعة التي يمثلها وجود الإنسان، صانع التاريخ وقبله مرآة الجمال.
حين حدثتني الفنانة الصديقة هيلدا الحياري عن حدادين بإعجاب لم أكن أتوقع أنني سأعثر على فنانة، سيكون عليّ أن أضمها إلى القلة التي أراهن عليها من جهة قدرتها على إنجاز الانتقال السلس والمرن من عصر الحداثة إلى ما بعدها.
“العوالم الخفية” التي تظهر في أعمال حدادين تتسع لحياة الناس العاديين، وهي فكرة مغامرة، تختصرها الفنانة من خلال الثناء على المكان الذي يُرى كما لو أنه يعيش حياة مختلفة.
تضعنا الفنانة وسط عوالمها الخفية لكي تقول لنا إن الحياة الحقيقية ستكون دائما في مكان مختلف.
ولدت حدادين في عمان عام 1983. وتخرجت عام 2006 من جامعة العلوم والتكنولوجيا بعد أن درست العمارة. ثم انتسبت إلى إحدى دورات الرسم في نيويورك. ومنذ ذلك الحين وهي تعمل في شركة للتصميم الهندسي بعمان.
أقامت معرضها الشخصي الأول عام 2010 وكان بعنوان “انتقال” بعده بسنة واحدة أقامت معرضها الثاني بعنوان “ما بعد الفراغ”، أما معرضها الثالث فقد أقامته عام 2012 وكان بعنوان “معالم: لجوء إلى الهوامش”.
تملك الفنانة التي لم تدرس الرسم أكاديميا خفة في الانتقال بين ما هو هندسي قائم على تصور رياضي وما هو إنساني سائب بين الواقع والخيال لا يملكها الكثيرون ممن امتزجوا بخيال الطبيعة وبالجمال الذي تقترحه مفرداتها.
الفراغ الذي يتوارى
لقد نشأت حدادين على فكرة تجريبية هي واحدة من أهم الأفكار المدينية. تلك هي فكرة المكان الذي يمتلئ من غير أن يقع في خصام مع الفراغ الذي يتوزع بين مجالين. الأول يضمه برفق والثاني يستبعده بهدوء.
لقد اشتغلت على المكان في حالتيه “ممتلئا وفارغا” وهو ما يذكرني بمشاريع الأميركي خرستو على الورق بحساسية خطوطها التي لا تحيل إلى الرسم لذاته، بقدر ما تستثمر انطباعاته عن مكان هو قيد الإنشاء.
تفتح الفنانة ثغرة في جدار الكيان المعماري تطل من خلالها على روح المكان التي لا تزال عالقة في منطقة حائرة تقع بين السكون والحركة.
وإذا ما كان خرستو يغطي الكيان المعماري، مبنى أو جسرا أو كاتدرائية أو جزيرة، فإن حدادين من خلال رسومها تعري ذلك الكيان، رغبة منها في فهم ردة الفعل البصرية لدى مستعمليه.
حدادين التي تمارس الرسم والتصميم والتركيب والتصوير الفوتوغرافي وصناعة الكتب إضافة إلى مهنتها باعتبارها معمارية تقدم صورة عن الفنان الذي يحمل إلى الفن أفكارا جديدة، لم يسبق تداولها على الصعيد المحلي. ذلك لأنها تنقل التفكير الفني إلى مناطق تقع خارج حدود ما هو مكرس من تقاليد.
ثنائيات مرحة في عالم يتغير
تنظر حدادين إلى المشاهد التي تسعى لإعادة صياغتها بعين مختلفة عن تلك العين المتلذذة بما ترى. فهي عين تخترق ما هو مرئي لتكتشف ما يقع في الخفاء. إنها تبحث عن الممكنات التي تقع في الجانب الآخر من المشهد ولم يصل إليها أحد. وبسبب ذلك المسعى فإن الفنانة تقيم علاقاتها البصرية على متناقضات قائمة غير أن الشعور بها يتطلب خيالا مباغتا في حركته. ثنائيات تجمعها الفنانة كما لو أنها الشيء نفسه في تكامل تنبعث منه أشكال جمالية خلاقة.
تتحرّك بين البطء والحركة، العابر والمقيم. الزائل والثابت، الساكن والمتحرك، الأفقي والعمودي، المعلوم والمجهول وبذلك تتمكن من الحصول على طبقات متداخلة من مشهد لن يستعيد هيأته الأولى بقدر ما يخلص إلى نتائجه التي تقدمها الفنانة بأسلوب مفاهيمي كما لو أنها جزء من فيلم لا يزال قيد التنفيذ. لقد تعلّمت الفنانة من هندسة العمارة كيف تنمو الأشكال الحيوية من داخلها أو من خلال الإضافة الخارجية التي سرعان ما تمتزج بها. غير أن ما تراهن عليه الفنانة يبقى مرتبطا بالوجود الإنساني الذي يلقي بظلاله الكثيفة على المشهد الذي ينفتح تدريجيا على ما يخبئه من طاقة جمالية.
كما لو أنها ترسم خرائط لمتاهات الكائن الغريب، ترسم دينا حدادين أجزاء منتقاة من عالمها الذي تركّبه خياليا.
“فنانة من طراز مختلف” تليق تلك الصفة بحدادين. ما قدمته حتى هذه اللحظة يمثل انعكاسا لتربيتها الأكاديمية. غير أنه انعكاس خلاّق يشير إلى رغبة الفنانة في أن تتسع رؤيتها لما تمارسه من فن ولعلاقتها بالمحيط الذي يمزج أحلام الإنسان بالإنشاءات التي تستجيب لخياله وحاجته.
المستقبل باعتباره صناعة
تتسع جغرافيا الوهم الذي تحاول حدادين استحضاره باعتباره واقعا قابلا للعيش بحيث تعبر بطريقة تجريبية عن رغبتها في إحداث تغيير، لا في السلوك الفني وحده بل وأيضا في سبل الحياة من خلال اختراع وسائل للنهوض بالمجتمع جماليا وخلق جسور متماسكة بين الإنسان وحاجته إلى التغيير.
يمكن القول إن حدادين هي فنانة مستقبلية. غير أن ذلك المستقبل بالنسبة لها ليس غامضا ولا مجهولا. إنه يقع ضمن دائرة ما يمكن تخيّله والعمل على إنجازه باعتباره صناعة ممكنة.
فهي باعتبارها معمارية تعرف جيّدا أن الوصف لا يكفي لإنشاء مبنى على سبيل المثال. هناك سلسلة من الاحتمالات المتخيّلة التي يجب أن تتوفر لكي يكون ذلك المبنى ممكنا.
في مقدمة تلك الاحتمالات يقف الإنسان باعتباره صاحب الرؤيا، الشاهد الذي ينقل تجربته من الهامش إلى المركز. لذلك فإن تجريبية الفنانة تعتمد بشكل أساس على حضور الإنسان، كائنا يندفع في اتجاه المستقبل.
أسعدتني أعمال دينا حدادين بقدر ما أشعرتني بالقلق.
فنانة من نوعها قد يضيق بها المشهد الفني بقناعاته الجاهزة. غير أنني على يقين من أنها ستقدم ما يثبت انعتاقها من الرياضيات، وهو ما سينفعنا في فهم الحرية كما لم نعرفها من قبل.