ديميتريس ليانتينيس آخر الفلاسفة الهيلينيين المتمردين

حاز الفيلسوف اليوناني ديميتريس ليانتينيس شهرة واسعة في بلاده سنة 1998 بسبب اختفائه المفاجئ والغريب الذي جعله مادة إعلامية شغلت الرأي العام طوال أسابيع، ثم عاد حديث الصحف مرة أخرى بعد اكتشاف رفاته في مغارة تقع في جبل تايجتوس سنة 2005.
ولد سنة 1942 وكان لقبه نيكولاكاكوس قبل أن يغيره إلى ليانتينيس نسبة إلى قرية ليانتينا مسقط رأسه. حصّل تكوينا أكاديميا في اختصاص الفيلولوجيا في معهد أثينا للفلسفة وقام بتدريسها فترة طويلة قبل أن يصبح دكتورا في الفلسفة بعد تقديم أطروحة حول “حضور الروح الإغريقية في مراثي دوينو لراينر ماريا ريلكه”. قام بتأليف مجموعة من الكتب في البيداغوجيا والديداكتيكية وفي القراءة الفلسفية للشعر وفي تأويل الثقافة الإغريقية الكلاسيكية، أهمها وأشملها كتابه الأخير “الجوهرة” الذي صدر قبل اختفائه وفيه خلاصة فلسفته وأفكاره التي سنتعرض إلى بعضها في هذا المقال الموجز.
كان ليانتينيس يكن عشقا عظيما للثقافة الإغريقية الكلاسيكية التي كرس حياته لقراءة تراثها وتأويله، فقد حاز التقليد الهيليني على انشغاله الأكبر، وبجّله على التقليد الإبراهيمي المتمثل في التراث اليهو – مسيحي. كان يميل إلى اعتبار الهيلينية، أي الحضارة الإغريقية الكلاسيكية، أهم منابع الذات الغربية التي ينبغي العودة إليها حتى تبعث الحياة من جديد في حضارة الغرب المعاصر، ذلك أنه كان يعتقد أن الإغريق الكلاسيكيين كانوا يتميزون بتفوق أخلاقي ورفعة معنوية، ويرجع ذلك إلى علاقتهم بالموت، فقد تملك الإنسان الإغريقي الكلاسيكي من رباطة الجأش ما جعله يواجه فنائيته بتأسيس منوال أخلاقي يعكس طبيعة الوجود المتناهية بدلا من فرض الأخلاق بوصفها قانونا إلهيا متخيلا يضمن مآلهم إلى الخلود في جنات النعيم.
يقول “لقد ولدت التراجيديا الأتيكية من خلال علاقة الإغريق الجدلية بالموت، وهي بالتالي نتاج الاشتباك الروحي للإغريق بظاهرة الموت”، كما يعتبر أن “تطلع الإغريق الحزين إلى الموت ولّد الفن، في حين ولّد خوف الآخرين من الموت الأديان”، ويضيف “لقد زرع اليهود أرض الإيمان، وزرع الإغريق أرض المعرفة.. كان اليهود جلادين، أما الإغريق فقد كانوا قضاة.. ولهذا السبب انتصر اليهود”.
لا يقصد ليانتينيس باليهود معتنقي الديانة اليهودية وحدهم، بل يشمل استعماله لكلمة “اليهود” التقليد اليهو – المسيحي كله (والإسلامي بدرجة أقل) الذي بلغ أوج انتصاره وهيمنته مع الإمبراطور قسطنطين العظيم الذي حوّل وجهة الغرب إلى المسيحية بعد اعتناقه لها وحاول القضاء على ما تبقى من التراث الإغريقي – الروماني الوثني واضطلع خلفاؤه الأباطرة المتحالفون مع الكنيسة بالمهمة نفسها.
تحتل ثيمة الموت في فلسفة ليانتينيس مكانة مركزية، فهو يعتبره “أهم مشكلات الفلسفة”، ويرى أنه لعب دورا رئيسا في تشكل رؤية الإغريق القدامى إلى العالم، ذلك أنهم لم يكونوا أصحاب رؤية جذلى بهيجة بقدر ما كان عالمهم مفعما بمالينخوليا لامتناهية، يظهر ذلك بجلاء في التراجيديا الأتيكية التي يعتبرها “أنبل إنجازات الإنسان على مر التاريخ”، لقد كانت فلسفتهم استقصاء للموت وسبرا لأغواره، وهو ما أدى بهم إلى استيعابه بما هو قانون كوني ثابت وغاية الحياة الأرضية التي لا تلحق في نظرهم بحياة بعدية. لقد أبصروا الموت في ضوء تناهي الكائن الإنساني، دون أي قصة عن الآخرة أو نظام جزائي أخلاقي للثواب والعقاب يكون حسب أعمال الإنسان في الحياة الأرضية.

ورغم احتواء الميثولوجيا الإغريقية أساطير فردية مثل أسطورة سيزيف الذي حكم عليه بالعذاب الأبدي في مملكة هاديس إلا أنها لا تعدو أن تكون استثناءات وهي لا تؤسس نسقا اعتقاديا بخصوص حياة بعد الموت. يعتبر ليانتينيس أن هذه الرؤية الإغريقية بطولية ذات شجاعة أخلاقية رفيعة، ذلك أنها نابعة من الشعور المأساوي، وهي نقيض الرؤى المطروحة في الديانات اليهودية التي تنبع من الخوف.
يحتفي ليانتينيس بفردية البطل الإغريقي، على خلاف الذات الشرقية التي يراها منحلة وذائبة في بوتقة الكون العظيم وخاضعة لأعراف الجماعة العضوية. إن الروح الإغريقية في نظره روح فردية بطولية تواجه موتها بسمو أخلاقي وقلب شديد، بل وقد يصل بها الأمر إلى اختيار طريقة موتها، يقول في أسلوب غنائي يحاكي لهجة أبطال الميثولوجيا الإغريقية البواسل “سوف أموت، أيها الموت، عندما أريد أنا وليس عندما تريد أنت. في هذا العمل الأخير، لن تتحقق رغبتك، بل رغبتي هي التي سوف تتحقق. أنا أحارب ضد إرادتك. أحارب قوتك. أحارب كيانك كله، سأفترش التراب عندما أقرر، وليس عندما تقرر أنت”.
إن صيغة الخلود الوحيدة التي آمن بها ليانتينيس وأسلافه الإغريق القدامى هي ما وسمه بـ”الخلود داخل العالم”، أي خلود السيرة أو الذكر الذي يتركه الإنسان خلفه من خلال أعماله ومثال حياته، أو بعبارة أخرى “سمعة ما بعد الموت”، تشبه هذه الرؤية الدهرانية ما نجده عند شعراء ما قبل الإسلام من تطلع إلى حسن الذكر وعدم انقطاعه بعد الموت باعتباره الشكل الوحيد لخلود الإنسان العربي، ومثال ذلك إنشاد الحادرة الذبياني “فاثنوا علينا لا أبا لأبيكم/ بإحساننا إن الثناء هو الخلد”.
يبدي ليانتينيس أسفا لما آلت إليه الثقافة اليونانية المعاصرة من تدهور وسقوط حتى صار اليونانيون المعاصرون “لامرئيين” بالنسبة إلى الأوروبيين. اليونانيون أبناء التراث الهيليني العظيم الذين صاروا نكرات بالكاد يلحظ وجودهم، يقول “بالنسبة إلى الأوروبيين.. نحن ‘الإغريقيون الجدد’ لسنا سوى مجموعة من المجهولين، شيء من عرب البلقان الأتراك، نحن الأرثودوكسيون أصحاب خط الكتابة الذي يشبه الروسية.. والقباب التي تعلو منازلنا القروية”.
مات ليانتينيس منتحرا بعد أن اختفى بشكل مفاجئ وغريب، وفي نفسه حسرة، تاركا رسالة ذات نبرة مريرة إلى ابنته الوحيدة ديوتيما، يقول فيها “عزيزتي ديوتيما، أنا مغادر طوعا، أختفي شامخا وصامدا وفخورا. لقد جهزت نفسي لهذه اللحظة خطوة خطوة طوال حياتي، حيث كان هناك العديد من الأمور، أهمها دراسة الموت بطريقة متأنية. أموت بصحة جيدة جسديا وعقليا،.. عيشي بكل بساطة وتواضع ونزاهة كما علمتك. تذكري أن الأجيال الجديدة ستواجه أزمنة عسيرة. إن من الظلم ومن الغريب أن تمنح الحياة إلى البشر، حيث يعيش معظمهم في دوخة هذا العبث السخيف. يتضمن عملي الأخير معنى الاحتجاج ضد الشر الذي نعده نحن الكبار للأجيال الجديدة البريئة القادمة. لقد عشنا حياتنا نأكل لحمهم. هاوية سحيقة الشر في رعبها. حزني على هذه الجريمة يقتلني.. ليانتينيس”.
هكذا واجه الفيلسوف ديميتريس ليانتينيس موته الخاص، بعد أن كرس حياته لدراسته والاستعداد له، مات مفجوعا من هول التردي وفي قلبه حسرة على تراثه الهيليني المجيد الذي آل إلى التدهور والسقوط، وعلى البطل الإغريقي الكلاسيكي الذي انحجب عن أفق الثقافة اليونانية المعاصرة، وحل محله رهط لامرئي من النكرات الذين لا يحسب لهم حساب ولا ينظر إليهم إلا باعتبارهم بقايا أطلال حضارة عظيمة.
- ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
