ديما رعد ترسم وجوها تضع الألم على خرائط الوجود

"ألم تنته الحرب؟" يتساءل المرء وهو يرى تجلياتها المؤلمة والعميقة في الأعمال الفنية اللبنانية. أكثر من ثلاثين سنة تفصلنا عن آخر رصاصات الحرب الأهلية ولا يزال الصراخ المكتوم يسكن الوجوه التي ترسمها ديما رعد.
رعد لا يمكن الاكتفاء بكونها رسامة للتعريف بها، فهي ناشطة فنية وسياسية سبق لها أن أدارت مؤسسات ذات صلة بالفن كما أنها خططت ورعت لقاءات فنية عالمية احتضنتها مدينتها بعلبك إضافة إلى عملها الأكاديمي أستاذة للفن في الجامعة اللبنانية.
كل ما قدّمته رعد للآخرين من جهد ووقت كان تعبيرا عن محاولة إعادة ترتيب البيت الداخلي بما يليق بمكانة وسمعة الفن التشكيلي في لبنان.
وبالرغم من ذلك فإن عينها تظل مصوبة إلى رسومها. هناك تقع حياتها وعالمها الخيالي. هناك ما تتذكره وترغب في أن تنساه.
مفارقة حياتها تكمن في أن الحنين إلى الطفولة يعني انزلاقا إلى جحيم الحرب الذي لم يغادره اللبنانيون إلا مجازا. كل ما رسمته، ما ترسمه الآن إنما يحيلنا إلى زمن لم يتم تجاوزه. ذلك الزمن الذي لا ترسم وقائعه من أجل وقائعه بل لكي تثبت أنه لا يزال ماثلا على الوجوه. وجوه عرفتها بشرط أن تكون صالحة للرسم.
حياتها وعالمها الخيالي معا
ما معنى أن تكون وجوهها صالحة للرسم؟ ترى رعد الماضي ممزوجا بالحاضر. زمنان في زمن واحد هو زمن حياة متخيلة ترغب الرسامة في أن تعيشها على سطح اللوحة وهي تتأمل وجوها خارجة من لحظات الخوف التي عاشتها شخصيا. ترسم الخوف والألم معا. تلك تجربة في اختبار عناصر الرسم وبالأخص الخط.
الخط في الرسم هو خط الوقت الذي تعيشه الرسامة وهي تسعى لوصف ما عاشته. تختزل رعد انفعالاتها وهي تتذكر. ما تعنيه الوجوه التي ترسمها هو أكبر من العلاقة البصرية الباردة. خطوطها تحضر مشحونة بمختلف المشاعر. يمكننا أن نرى القبيح والجميل وهما يتصارعان. فكرة الصراع بين عالمين في ظل حرب لم تنته هي من اختراع الرسامة. كان من الممكن أن تمضي الحياة بتناقضاتها لولا أن الرسم ينحاز إلى الجمال.
رعد ليست رسامة وحسب، بل هي ناشطة فنية وسياسية سبق لها أن أدارت مؤسسات ذات صلة بالفن، ورعت لقاءات فنية عالمية في بعلبك إضافة إلى عملها الأكاديمي أستاذة للفن في الجامعة اللبنانية
لا تبحث رعد عن الجميل بين الأنقاض بقدر ما تسعى للتعريف به كونه جزءا من حياة زائلة. لم تصور الرسامة جمال الحياة بل صورت جمالا تنطق به خطوطها وهي تطارد مصائر الكائنات التي أحاطت بها. هي رسامة كائنات مهمشة لا تزال على قيد العيش.
ولدت في بعلبك عام 1969. عام 1992 حصلت على دبلوم دراسات عليا في الرسم من الجامعة اللبنانية وفي عام 1999 حصلت على دبلوم في علم الآثار. بعدها بسنة نالت شهادة الماجستير في الفنون التشكيلية. عام 2021 حصلت على شهادة الدكتوراه في الفن من المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة اللبنانية.
عملت في إدارة المعارض بوزارة الثقافة كما درست الفن في معهد الفنون الجميلة ودار المعلمين. وأقامت أول معارضها عام 1993. بعده أقامت أكثر من عشرة معارض. وفي الأثناء كانت قد ساهمت في العديد من المعارض الجماعية داخل لبنان وخارجه كما أشرفت على إعداد المشاركة اللبنانية في عدد من اللقاءات الفنية العالمية.
لبنان باعتباره مقبرة جماعية
تعليقا على لوحاتها في معرضها "وجوه متتالية - 2022" تقول رعد "هي ومضات وبقايا ملامح عبرت في المخيلة جراء الأحداث التي مررنا ونمر بها في حياتنا اليومية، بحيث أصبح الوجه مبهما والعصب مشدودا والألم واضحا والشعور مبعثرا والفرح مشتتا والحب على حافة الانتظار والوطن مقبرة جماعية".
يسمح الرسم للفنانة أن تتحايل على الزمن. فما ترسمه سيكون مزيجا مما يتم تذكره وما هو قابل للنسيان. تلك الوجوه مرايا لا تُظهر أشخاصها بقدر ما تفسر وجودهم في لحظات مختلفة من وجودهم الذي هو عبارة عن أسئلة لم تتم الإجابة عنها. هل سيعيش المرء حياتين؟ ينطبق ذلك السؤال على كل الوجوه التي ترسمها. ولكن الرسامة تحاول في كل ما ترسمه أن تتماهى مع الحقيقة القاسية التي تفيد بأن كل شيء لا يزال في محله وأننا لم نغادر الحرب التي انتهت منذ أكثر من ثلاثين سنة. ما معنى أن نكون مأزومين كما لو أننا في حالة حرب؟
معرضها “وجوه متتالية – 2022” تصفه رعد بأنه ومضات وبقايا ملامح عبرت في المخيلة، بعد أن أصبح الوجه مبهما مشتتا على حافة الانتظار والوطن مقبرة جماعية.
هي ابنة الحرب. لم تر من طفولتها سوى مظاهر الحرب وها هي تكبر على طبول حرب متعددة الطبقات والأشكال. ولأنها ناشطة في المجال السياسي فإنها تدرك جيدا أي دور يلعبه الفن في إحياء الذاكرة.
عام 2016 أقامت معرضا في دبي بعنوان "أهلا بكم في عالمي" عنوان جريء وينطوي على دلالات شخصية هي بمثابة عتبات للتعريف. في ذلك المعرض قررت الرسامة أن تفتح أبواب عالمها بكل تفاصيله كما لو أنها كانت تود لو يتحول ذلك العرض إلى حديث شخصي.
لقد رسمت كعادتها وجوها. هناك رسامون حول العالم يرسمون وجوها. هم مثلها لا يرسمون سوى وجوه. فما الذي يميز وجوهها عن وجوه الآخرين؟ ذلك السؤال حاولت أن تجيب عنه من خلال استعراض تفاصيل عالمها. هناك حيث لا يكون الوجه سوى مفردة جامعة لمشاعر مضطربة عاشتها الرسامة منذ طفولتها.
تؤكد رعد أن التعبير ليس كل شيء في العمل الفني الذي يتمحور حول لعبة الألوان والتأليف والتوازن والموضوع لتأخذ الحيز الذي تجده مناسبا من غير شروط، حسبما تقول. الوجه هو سطح ثان للوحة. هو طبقة مضافة تقع عليها طبقات، بعضها يرتبط بالتعبير الذي يغلب عليه الطابع الأدبي والبعض الآخر هو حاضنة لتجريب جمالي لا يخضع لمعايير جاهزة. إنه وليد فعل الرسم المباشر.
تقول "علني أصل إلى مداخل أخرى ومجهولة. وفي انتظار ذلك المجهول وبما أننا جيل الحرب والويلات أقدم هذه الوجوه قرابين على مذبح اللانهايات".
هكذا لا تعتبر الفنانة لوحتها صورة نهائية للعمل الفني الذي تحلم بالوصول إليه. كل وجه من الوجوه التي ترسمها قد يتحول يوما ما إلى واحد من تفاصيل عمل سيجود به المجهول.
أيها الماضي ابتعد قليلا
"إلى أن تنتهي الحرب" ستكون الوجوه المعطوبة والمتألمة والشاردة صلة الوصل بين عالمها والعالم الخارجي الذي لم تتعرف عليه إلا وهو ينصت إلى خطوات ماضيه. ولكن ذلك ليس إلا نوع من التكهن الذي قد لا يصح في حالة شخص حيوي وراغب في التغيير مثل رعد التي وضعت نفسها في اختبارات عديدة ونجحت.
وجوهها الخارجة من الحرب ساعدتها على العثور على أسلوب في الرسم وتقنيات في التعامل مع المواد ومعالجة السطح وهو ما أفرد لها مساحة جيدة وسط جيلها وقد يتوقف الأمر عند هذا الحد من غير الغوص عميقا في البيئة التعبيرية التي قد تتحول يوما ما إلى عبء يجب التخفيف منه.
في انتظار ذلك المجهول تبقى رعد مشدودة إلى عالمها الذي اعترفت أنه لا يشكل صيغة نهائية لوجودها. هناك ما تنتظره وينتظره متلقو أعمالها الذين لن يكونوا دائما من أبناء الحرب. عالم ديما رعد بقدر انغلاقه على الحرب ومآسيها بقدر ما هو يتطلع إلى هبات المستقبل.