دون فلسفة التاريخ يغدو التعامل مع الأحداث التاريخية مرتجلا

سيف بن عدي المسكري: التاريخ كعلم شهد نقلة معرفية.
الثلاثاء 2024/12/17
من الضروري تعزيز البحث الحر

البحث في التاريخ ضروري جدا لفهم الماضي وبالتالي فهم البنى الحضارية والحاضر بكل جذوره، لكن البحث في التاريخ لم يعد مقتصرا على تتبع الأحداث الكبرى أو الشخصيات السياسية، بل يتجه أكثر إلى الهامشي والمنسي والتفاصيل المهملة، وهذا ما يسعى إلى الوصول إليه الباحث العماني سيف بن عدي المسكري الذي أجري معه هذا الحوار.

خميس الصلتي

مسقط- يتجسد المنهج البحثي التاريخي في سلطنة عُمان لدى العديد من الباحثين في عدد من الرؤى والأهداف التي تؤدي إلى الوصول نحو الهدف التي تقوم عليه تلك المشاريع الثقافية من خلال تطبيق عدد من الآليات العملية، وفي هذا السياق يرى الباحث في التاريخ سيف بن عدي المسكري أن التاريخ أشبه بصندوق ضخم حاوٍ لأحداث ورؤى عديدة ومتباينة، أحيانا تتخللها ذاتية المُنشِئ والمقيِّد وأهوائه بالضرورة. والمتعاطي مع هذا الصندوق تدفعه بواعث عدة، يُدخل يده فيه ويخرج ما يلائمه سلبا وإيجابا لتوظيفه في تجاذبات الحاضر وصراعاته، وما نسميه بالانفجار المعرفي في زمن الفضاءات المفتوحة، وكثُر الهواة ومتصيِّدو الشهرة السريعة، ومن يلعب على عواطف الافتخار بالماضي والنظرة الوردية إليه.

ويضيف في حديث معه في هذا السياق أن هذا لا يمكن ضبطه إلا من قِبَل المتلقي الذي عليه تحصين عقله وتنمية معارفه عبر المصادر أو القنوات العلميّة ليستطيع التمييز بين السطحي والعميق، والطرح الموثّق بالدلائل عن الآخر الخيالي المختلق.

البحث التاريخي

بوكس

يقول المسكري “محليّا علينا العناية بالمنهجية في الطرح والتعددية في المقاربات، وتنويع المصادر، والغوص في جوانب تلامس الإنسان فردا وجماعة، فلا نحصر البحث في الجوانب السياسية أو البيوغرافيا المرتبطة بالأفراد الفاعلين، مع ضرورة تعزيز البحث الحر غير المقيد إلا بضوابط العلم وقواعد المنهج، فمن دون ذلك سنراوح مكاننا بطرح القضايا نفسها عبر أدوات وطرائق شبه تقليدية.”

وعن أهمية البحوث التاريخية ومساهمتها في فهمنا ووعينا للعالم المعاصر، وما تقدمه من إضافات علمية تعزز تاريخ الحضارات الإنسانية، فإنه يقول “عرفت الدراسات التاريخية تطورات مفصلية خلال القرن العشرين، وبالأخص ما يسمى بالتاريخ الجديد على يد المؤرخين الفرنسيين، الذين أولوا عناية كبيرة بجوانب لم تطرح من قِبل المهتمين بالتاريخ قديما، تغير الوضع فصرنا نجد تاريخا للمهمشين والأقليات وأخرى حول السكن أو اللباس، أي الانتقال من البحث في الحاكمين إلى البحث في المحكومين، أظهرت ذلك دراسات حول المخيال والذاكرة والعقليات، ومع ذلك حدث في العقود الأخيرة عودة للاهتمام بالحدث والتسلسل الزمني أو ما يعرف بالكرونولوجيا.”

ويلفت إلى أن جميع هذه الجوانب تصب في فهم واقع الإنسان ولربما تستشرف مآلاته، فتراكم الخبرات الناتجة عن مجمل الجهد البشري تسهم في إدراك وعي البشر بأنفسهم وعلاقتهم بالطبيعة، وما يتبع ذلك من تطور مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية.

ويضيف “من المهم الإشارة إلى كون تلك المنجزات منذ الثورة الزراعية إلى ثورة المعرفة والتكنولوجيا المعاصرة هي نتاج جميع الحضارات الإنسانية، ولا يستقيم خطاب يرى احتكار التحضر ونتاجاته وحصره في حضارة واحدة، كما هو الحال في التمركز الغربي، الذي سوّق أن حضارة اليونان كانت معجزة على غير مثال، وأن حضارته الحالية أي الغرب الأوروبي هي استمرارية لتلك الحقبة، وأنه نهض برسالة تمدين ونشر التحضر في فضاءات الشعوب الأخرى. تعددية الثقافات البشرية هي الوضع الطبيعي وتنوعها مصدر ثراء، وسيادة روح الاحترام بينها كفيلة بضمان حد من السلم العالمي واستمرارية العطاء البشري.”

وحول الاهتمام العالمي المتزايد بأهمية البحوث والدراسات التاريخية، يشير المسكري بقوله “إن التاريخ كعلم شهد نقلة معرفية واسعة، ربما تعود لأواخر القرن التاسع عشر فصاعدا، حيث افتُتحت أقسام التاريخ في الجامعات واكتسى هذا الحقل المعرفي الطابع الأكاديمي وغدى متسلحا بمنهجية علمية رصينة، مع تعدد زوايا المقاربة، وهنا نستحضر مقولة للمؤرخ الفرنسي مارك بلوخ ‘إن فكرة كون التاريخ علم الماضي عبثية، فالماضي لا يمكن أن يكون محل بحث‘، ورأى في التاريخ ‘علم البشر عبر الزمن‘، وهذا الماضي بقدر ما يساعدنا على فهم الحاضر، كذلك يمكن أن نُسقط الحاضر في فهم الماضي.”

ويشير إلى أنه “كثر الاهتمام بما بات يُعرف بالتاريخ العالمي أو التاريخ من منظور عالمي حيث تدرس ظاهرة ما بشرية أو طبيعية وتأثيراتها المختلفة عبر الزمن الطويل، والسمات التي طبعتها وتجلياتها في المجتمعات أو الحضارات المختلفة، وهذا السعي ينشد تقديم رؤية شاملة لموضوع ما.”

ومن خلال قراءاته في التاريخ ، يشير إلى الكيفية التي يمكن من خلالها أن تؤثر على الثقافة العامة، وكيف يمكن أيضا أن تتكامل وتتقاطع الدراسات التاريخية مع بحوث أخرى كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وهنا يقول “الرغبة في التبصر حول الماضي أو الجذور سمة خاصة بالإنسان ككائن عاقل واعٍ بذاته، هنالك من يوظفه في تعزيز أطروحات ما وتهميش أخرى، يظهر ذلك جليّا في المناهج الدراسية ‘ما قبل الجامعية‘ في أغلب دول العالم إن لم نقل جميعها، وأن تكامل وتقاطع حقل البحث التاريخي مع الحقول المعرفية الأخرى قضية نوقشت منذ زمن ويطول الحديث حولها، فهنالك التاريخ والآثار والتاريخ والأدب، والتاريخ والذاكرة، وغيرها.”

ويؤكد “المهم أن يستعير الباحث التاريخي ما يعينه منهجيّا على البحث من نظريات وأفكار ونتائج تكشف عنها هذه العلوم ليلحقها بعد التكييف في عوالمه البحثية، وبخصوص علم الاجتماع، فهنالك من يعده تاريخا للحاضر، والتاريخ علم اجتماع الماضي وفي ذلك نظر، أما الأنثروبولوجيا، فإنني أستدعي هنا مقولة لعالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي إيفانس برتشارد ‘أمام التاريخ خيار واحد، إما أن يصير أنثروبولوجيا اجتماعية أو لا شيء‘ وفي هذا شطط ومبالغة، التمايز بين الحقلين موجود، واهتمامات كل منهما فيها اختلافات، وهذا لا يعني عدم التقاطع معرفيّا ومنهجيا بينهما.”

منهجيات غربية

بوكس

ينتقل الباحث سيف بن عدي المسكري ليتحدث عن كتابه “الإمامة والصراع على السلطة في عُمان أواخر دولة اليعاربة” موضّحا أن الكتاب مر عليه قرابة أكثر من عقد منذ صدوره، وقتها كانت المواضيع ذات البعد السياسي الأكثر حضورا لدى جيله ومن سبقه، فكان التفات العديد من الباحثين إلى قضايا تتعلق بالشخصيات القيادية.

ويقول “إن كان من ميزة لذلك الإصدار فهي المقاربة من زاوية الفكر السياسي وأنظمة حكم الإمامة، وفترة الصراع (1719-1749م) وما جرّته من ويلات أثرت في صيرورة دولة اليعاربة وكان لها آثارها البعيدة المدى على البنى الاجتماعية في عُمان. كشفت الدراسة أن نظام الإمامة في العهد اليعربي قد مر بثلاث مراحل.”

وحول مساهماته في مراجعة وتدقيق كتاب “سلطنة عُمان في دليل الخليج” للبريطاني روريمر وتجربته في هذا الواقع البحثي يقول “الكتاب في أصله فكرة دار النشر البيروتية بيسان، ودوري تلخص في المراجعة النهائية للترجمة بالخصوص في مسميات المناطق والسكان، ومع ذلك ظهر القسم الجغرافي منه بصورة ليست تامة وفيها بعض القصور، مع الأمل في أن يتم تجاوز ذلك في حال العمل على طبعة ثانية منه. ودليل الخليج أو السجل التاريخي للخليج وعُمان وأواسط الجزيرة العربية هو عرضٌ لأوضاع المنطقة منذ بداية القرن السادس عشر حتى مطلع القرن العشرين، مقسما إلى جزأين: تاريخي وضم عدة مجلدات بداية من عرض للتاريخ العام لمنطقة الخليج ثم تفصيل حول أوضاعها التاريخية.”

وفي شأن مسألة الاستشراق، يطلعنا المسكري إلى هذه المسألة المهمة في التاريخ البشري العربي والغربي ويبيّن “شيوع بعض المفاهيم وتعدد استعمالاتها التي توحي بكونها ذات معان، ومقاصد بينة وواضحة، ومتفق على دلالاتها لدى الجميع.” ويضيف “الاستشراق قد يكون أحدها؛ ففي مقابل الكم الهائل من الإنتاج المعرفي حول هذا المفهوم، وبلغات عديدة نجد الاشتباك جدلا في ماهيته وكنهه، ومنطلقاته، وأساليبه مستمرا. أثار ظهور كتاب ‘الاستشراق‘ للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عام 1978، ردود فعل كبيرة وواسعة، حتى غدا فاصلا بين زمنين، وفي ما يتعلق بهذا النشاط.”

ويتابع “اليوم؛ أي بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، لا تزال الدراسات على المستويين العالمي والعربي تناقش أطروحته عبر تجاذبات ومقاربات مختلفة، وأذهب إلى أن الموقف الموضوعي من المنتج الاستشراقي يعني الاطلاع عليه، ومحاورته ونقده، بعيدا عن المواقف الحدية التي تتباين بين الرفض التام، والإدانة والتشكيك المطلق، وبين الركون المتسم بالكسل والثقة العمياء في كل ما صدره من آراء وأحكام.”

وعن أهم المنهجيات التي يتبعها الباحث سيف المسكري في مشاريعه البحثية، وآليات اختيار المصادر الأولية والثانوية، مرورا بالمعايير التي يعتمدها لتقييم موثوقية المصادر التاريخية خاصة في ظل وجود التناقضات بين المصادر المختلفة يقول “لا يزال الواحد منا يتعلم ما دامت جذوة الشغف المعرفي متقدة، مر وقت طويل حتى تمكنت من الإمساك بالخطوط الرئيسية للمناهج الحديثة والسعي الدؤوب لتطبيقها، والمسألة متشعبة وشائكة جدا ما، فأنت في المرحلة الجامعية الأولى لا تزود بمعارف كافية حول فلسفة التاريخ التي من غيرها يغدو التعامل مع الأحداث التاريخية مرتجلا، فلا يكفي الإلمام بالحادثة وتتبع مصادرها وتقديم قراءة حولها، لابد من النظرة الكلية لصيرورة التاريخ، ثم هنالك الكتابة التاريخية وتطورها أو ما يعرف بالأسطوغرافيا، وأخيرا، المنهجية وهذه في غالبها مستعارة من الفكر الغربي الذي قطع شوطا عظيما في التعامل مع العلوم الإنسانية وتوظيفها، لذلك حين نستعير تلك الأدوات لنقارب بها واقعا مختلفا، فعلينا الحذر، قضايانا غير قضاياهم وهموم مجتمعاتنا مختلفة، وليس معنى ذلك انتفاء المشترك الإنساني.”

ويتابع المسكري مسألة المصادر ومدى صدقيتها قديمة ومتطورة في الآن نفسه، لم يعد الباحث محصورا في المكتوب من مصادر أولية أو وثائق ذات طابع رسمي، يلاحظ لدينا في الآونة الأخيرة ظهور شغف بتتبع الكتابات الصخرية وهذا مصدر ثري كبير الموثوقية مع ضرورة الأخذ بالأساليب العلمية لا اشتغالات الهواة، وهنالك المرويات الشفوية والأدب الشعبي والمراسلات الشخصية والمعاملات التجارية، كُشفت لي المشاركة مع فريق بحثي في مشروع جمع الشخصيات المشتغلة بالتجارة والصناعة في محافظة الداخلية قبل عام 1970 والتابع لمجلس البحث العلمي سابقا ضخامة وثراء واقعنا وقابليته للمزيد من المقاربات العلمية الجادة.”

◄ الباحث لا يكفيه الإلمام بالحادثة وتتبع مصادرها وتقديم قراءة حولها لا بد له من نظرة كلية لصيرورة التاريخ
الباحث لا يكفيه الإلمام بالحادثة وتتبع مصادرها وتقديم قراءة حولها لا بد له من نظرة كلية لصيرورة التاريخ

 

13