دول الخليج وواجب الحوار

التجارب فيها دروس وعبر تحتاج من يستوعبها فقط ويحرص على الأخذ بنصائح الجيران العقلاء فالمسألة لا تحتاج إلى التباهي بالتاريخ والإمبراطوريات البائدة بقدر ما تحتاج إلى ذكاء سياسي وفهم للواقع.
الثلاثاء 2024/10/22
من المسؤول عن زعزعة الأمن والاستقرار

بعض السرديات المجتمعية تصلح لأن تكون لها معانٍ سياسية، ربما لأن السلوكيات البشرية تتطابق مع ممارسات السياسيين الذين يصنعون ويضعون الإستراتيجيات والذين يقومون بتنفيذها. الفرق بينهما هو الموقع الذي ينطلق منه التصرف؛ فالقصص الشعبية أو السردية المجتمعية هي من واقع التفاصيل اليومية، في حين أن السلوكيات السياسية تحتاج إلى وقت حتى تظهر النتائج.

هناك سردية خليجية من الطبيعة والبيئة المجتمعية الخليجية والثقافة السلوكية والاجتماعية الخليجية تتعلق بعلاقة الفرد بصاحبه وما يستوجب عليه فعله تجاه صديقه أو جاره، تفرضها عليه القيم والعادات والتقاليد المجتمعية الخليجية التي تربّى عليها. فحوى السردية، إذا رأيت سلوك صديقك غير مناسب تجاه أصدقائه أو أبنائه، تستوجب عليك الأخلاق الإنسانية والقيم الإسلامية والأعراف الخليجية أن تقدم له النصيحة من باب حبّك للخير له ومن إيمان المسلم. ولكن، في حال أنه كابر وتعنت وأصرّ على سلوكه، فهنا وجب عليك إظهار الاحترام والتقدير له من باب الحفاظ على نفسك وحمايتها حتى تأتي لحظة يستدرك فيها ويستوعب من تلقاء نفسه معنى ما كنت تسعى له من أجله.

لو طبقنا تلك المقدمة النظرية على ما يحصل الآن في المنطقة على المستوى السياسي والعسكري، سنجد أن المساعي الخليجية في التعامل مع الجار الإيراني كانت تتلخص في أهمية التعاون والعمل من أجل مصلحة المنطقة التي نتواجد فيها جميعًا، لأن ضرر أيّ طرف من الأطراف سيشمل الجميع.

استمر هذا الأمر لأكثر من أربعة عقود (أي منذ تسلم نظام ولاية الفقيه للحكم في إيران)، وإن كانت فترة ما بعد 2003 قد شهدت ازديادا وارتفاعا فيها التجاهل الإيراني للمساعي الخليجية في التهدئة، بل وصل الأمر إلى التبجح في الاستفزاز من خلال رفع الحس الطائفي والتحريض عليه وتعزيزه وإثارته في المنطقة.

الكلام نفسه ينطبق على الميليشيات التي تعاونت مع النظام الإيراني وتحركت بناءً على تعليماته وتوجيهاته، وعملت كذلك ضد أوطانها وضد الإقليم، وأجبرت الشعوب بل جعلت وحرضت أبناء الشعب الواحد على التناحر من أجل أهداف طائفية ومذهبية.

◄ المساعي الخليجية في التعامل مع الجار الإيراني كانت تتلخص في أهمية التعاون والعمل من أجل مصلحة المنطقة التي نتواجد فيها جميعًا، لأن ضرر أيّ طرف من الأطراف سيشمل الجميع

من الذي يتحمل ما يحصل في المنطقة الآن من زعزعة الأمن والاستقرار؟ الواقع والحقيقة أن من يتحمل ذلك هو إيران بالدرجة الأولى، ومعها الميليشيات وأصحاب الحناجر التي تخون كل محب لوطنه، بل إنها في المقابل تتجاهل مساعي الجيران (دول الخليج العربية) في التعاون والتعايش بأمن واستقرار، حيث أنهم عقدوا صفقات سياسية ضد هذه الدول مع الدول الكبرى دون الأخذ بالرأي الخليجي في أمن المنطقة، رغم أنها المتضرر من عدم الاستقرار ومن خطر الأنشطة التخريبية والبرامج النووية المهددة لاستقرار وأمن المنطقة.

بالعودة مرة ثانية إلى السردية الخليجية، فقد اتخذت الدول الخليجية في الفترة ما بعد 2021 مجموعة من الخطوات صبت كلها في الانتباه على نفسها، من خلال توسعة علاقاتها الدبلوماسية الدولية، واستمرت وما زالت تتعامل مع إيران رغم استمرارها في نهجها التدميري للمنطقة، لعل الجار يفهم ويتغير ويعرف قيمة التعايش والاستقرار. منذ سنة مضت أو أكثر قليلاً وحتى اليوم، حدثت جملة من المتغيرات ضد إيران، أولها الاحتجاج الشعبي في العراق، ثم تبعتها الاحتجاجات الشعبية الداخلية في إيران بسبب الحجاب، إلى أن جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول “البدو”، وهي أحداث السابع من أكتوبر 2023، وجاءت لتكمل عليها سلسلة التصفيات للقادة الإيرانيين وقادة حزب الله اللبناني.

ميزة دول مجلس التعاون الخليجي أنها تتعامل مع الآخر بشفافية ووضوح، ذلك لأن مساعيها وأهدافها العليا هي خدمة الشعوب، وربما هذا هو منطلق قوة القيادات والحكومات الخليجية، أنها قريبة من الشعب الذي يعتبر حائط الصد الأول في أيّ بلد في العالم.

لكن، من يكابر ويصرّ على تخريب استقرار المنطقة ليعلم أن النتيجة ستكون كما حصل في فترة ما يطلق عليه “القومية العربية” في الستينات وبداية السبعينات، أو كما نرى الآن ما يحصل في المنطقة.

التجارب فيها دروس وعبر، ومنطقتنا مليئة بها وتحتاج إلى من يستوعبها فقط ويحرص على الأخذ بنصائح الجيران العقلاء، فالمسألة لا تحتاج إلى التباهي بالتاريخ والإمبراطوريات البائدة بقدر ما تحتاج إلى ذكاء سياسي وفهم للواقع إذا كان الأمر سياسيًا، أو ذكاء اجتماعي إذا كان الأمر سلوكًا أو شأنًا فرديًا.

9