دور النشر تتنافس على إصدار الإبداعات المنسية للرواد من الأدباء

اهتمام دُور النشر العربية بالبحث عن كتب تائهة أو منسية لجيل الرواد يعكس تدهورا ثقافيا آنيا.
الاثنين 2021/03/15
استغلال للأدباء الراحلين (لوحة للفنان محمد قنيبو)

أثار نشر كتب جديدة لمبدعين وكتاب راحلين بعد وفاتهم جدلا في الأوساط الثقافية بمصر حول انعكاسات تلك الأعمال على صورة أصحابها نظرا إلى التباين الكبير في مستوياتها مقارنة بأعمالهم التقليدية، أو لأنهم لم يرغبوا في طباعتها في حياتهم، حيث كانت في نظرهم دون المستوى المطلوب. وهناك من يراها ظاهرة سلبية وآخرون يعتبرونها حسن نية.

إذا كان البعض اعتبر إصدار الكُتب الجديدة التي لم تنشر للمبدعين الراحلين من جيل الرواد نوعا من التكريم والوفاء لهم، فإن آخرين رأوا الأمر على أنه استسهال ثقافي يستهدف تحقيق أرباح مادية شبه مضمونة في ظل كساد واضح يعاني منه سوق الكتاب العربي.

وشهدت القاهرة قبل أيام إعلان مؤسسة “أخبار اليوم” عن نشر كتاب جديد للكاتب محمود عوض الذي رحل في أغسطس 2009 بعنوان “الدنيا التي كانت”، ويتضمن بعض تجاربه في الصحافة المصرية كرئيس تحرير حقق نجاحا في إدارة صحيفة الأحرار المعارضة، وخبراته ككاتب له جمهور واسع، ما أثار جدلا، لأن الكتاب تضمن مقالات سبق نشرها للكاتب.

الكاتب محمد شعير جمع ثماني عشرة قصة كتبها محفوظ في التسعينات ولم تنشر
الكاتب محمد شعير جمع ثماني عشرة قصة كتبها محفوظ في التسعينات ولم تنشر

ودفع ذلك بعض المتابعين لسوق الكتاب إلى طرح تساؤل حول ما إذا كان الكِتاب احتفاء بالرجل أم استفادة من جمهوره الواسع، وتباينت الآراء بشأن مدى قبول الكاتب نفسه لنشر هذه المقالات في كتاب لو كان على قيد الحياة.

تكررت قبلها وقائع طباعة أعمال غير منشورة لكتّاب كبار مثل نجيب محفوظ ويحيى حقي وطه حسين وأمل دنقل بعد رحيلهم جميعا باعتبارها أعمالا نادرة، غير أن مستوى الكثير من تلك الأعمال بدا ضعيفا من الناحية الفنية، ما دفع البعض إلى إنكارها واعتبار أن الغرض منها هو المكسب المادي.

إساءة للراحلين

يؤكد الناقد الأدبي مصطفى بيومي، الذي أصدر أكثر من عشرين كتابا تحليليا لأدب نجيب محفوظ، أن المجموعات القصصية التي نشرت للأديب المصري الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عقب وفاته اتسمت بالضعف الفني الشديد إلى درجة يمكن اعتبارها تمثل إساءة بالغة لإبداعه.

ويقول في تصريح خاص لـ“العرب” إن مجموعة “فتوة العطوف” التي قدمها الأديب محمد جبريل باعتبارها عملا منسيا لمحفوظ لا تتناسب مع باقي أعماله من حيث اللغة والعمق والنسق الفني، ما يشير إلى أن الكاتب نفسه لم يقبل نشرها خلال حياته لعدم رضاه عنها، وهو التفسير الأكثر منطقية، لأن محفوظ لم يُصدر لسنوات طويلة عقب فوزه بجائزة نوبل أعمالا جديدة.

وقام الكاتب محمد شعير بتجميع ثماني عشرة قصة أخرى كتبها محفوظ في التسعينات ولم تنشر ضمن مجموعة أعماله الكاملة أو حتى في أي من المجموعات المنفردة، وأصدرها في كتاب واحد حمل عنوان “همس النجوم” عن دار الساقي للنشر.

كتاب يتضمن بعض تجارب الكاتب الراحل محمود عوض في الصحافة المصرية
كتاب يتضمن بعض تجارب الكاتب الراحل محمود عوض في الصحافة المصرية

 ويرى بيومي أن الخطورة هنا تكمن في جرح صورة المبدع الكبير أمام جمهور القراء الشباب الذين قد يتعرف بعضهم عليه للمرة الأولى من خلال مثل هذه الكتب غير المُعبرة عن مشروعه الحقيقي.

وكل مبدع لديه مسودات لأعمال غير مكتملة ومحاولات كتابية غير معتمدة أو مقبولة بشكل نهائي، وربما لا يرضى عنها، ونشر هذه النصوص عقب وفاة صاحبها كجزء من إبداعه أمر غير موفق.

وتتسم معظم الكتابات المنشورة لكبار المبدعين عقب وفاتهم بالضعف، وتعبر عن مراحل ربما تكون مبكرة في مشروعاتهم الإبداعية، مثلما هو الحال مع قصائد الشاعر الراحل أمل دنقل المنسية التي قام شقيقه بنشرها عقب وفاته، فضلا عن بعض كتابات طه حسين المبكرة التي اتسمت بالحماسية وربما الاندفاع والحدة في التعبير، وتتناقض مع منهج الرجل نفسه في ما بعد القائم على الحوار العقلاني والمنطقي.

وتتعامل المجتمعات الثقافية المتطورة في العالم مع مثل هذه الأعمال كجزء من تاريخ المبدع وليست ضمن مشروعه الإبداعي، وهذا هو الحل الأمثل، بمعنى إمكانية نشر هذه النصوص في إطار دراسات نقدية تستهدف استقراء تطور الكتابة عند كل مبدع.

ويقول مصطفى بيومي لـ“العرب”، “المبدع الكبير ليس ملكا لورثته كما يتصور البعض، وإنما هو جزء من التراث الثقافي الوطني للدولة التي ينتمي لها، ولا بد من الحفاظ على صورته والحرص على مكانته وقيمته الأدبية”.

حسن النوايا

مجموعة قدمها الأديب محمد جبريل باعتبارها عملا منسيا لمحفوظ
مجموعة قدمها الأديب محمد جبريل باعتبارها عملا منسيا لمحفوظ

في بعض الأحيان هناك كتب وأعمال لمبدعين كبار قد تتعرض للضياع خلال حيواتهم، ثم يعثر عليها الورثة بمحض الصدفة بعد وفاتهم، وهو ما يدفع للقول بضرورة تحري الحقيقة والدقة في تقييم تلك الأعمال وعدم التسرع بنبذها باعتبارها مسودات أو مشروعات أدبية غير مكتملة.

ويؤكد الناقد الأدبي خيري حسن لـ“العرب” أن هناك خيطا رفيعا جدا بين فكرة التربح المادي لدى ورثة المبدع والوفاء لذكراه، وبعض الكُتاب رحلوا بالفعل وعلى كمبيوتراتهم مسودات لكتب كانوا يعتزمون نشرها، لكنهم أهدروا سنوات عمرهم في انتظار التوقيت المناسب للنشر.

وحكى بعض الأدباء الكبار عن كتب ضاعت منهم قبل نشرها، مثلما ذكر الروائي المصري محمد المنسي قنديل في محاورات عديدة نشرتها الصحف لافتا إلى فقدانه لرواية هامة من رواياته بعد كتابتها خلال رحلة انتقاله من مسكن إلى آخر حملت عنوان “جواز سفر”.

ويرى خيري حسن أن افتراض حسن النوايا عند التعامل مع هذه القضايا يُرجح كفة النشر بالنسبة إلى كتب الكبار متى وجدها الورثة، وتساءل عما يدفع المجتمع الثقافي إلى التشكك في كل كتاب جديد يتم العثور عليه لمبدع راحل، أو يقرر أي من الورثة إصداره، مطالبا بترك الحكم العام للجمهور وهو أمر يتفق ويتناسب مع حرية التعبير وعدم إقامة وصاية من أي نوع على الإبداع.

وهناك من يرون أن اهتمام الكثير من دور النشر العربية بالبحث عن كتب تائهة أو منسية لكتاب من جيل الرواد يعكس تدهورا ثقافيا آنيا، حيث يتشكك أصحاب هذه الدُّور في إمكانية تسويق الإصدارات الجديدة للكتاب الحاليين في ظل تراجع مبيعات الكتب عموما.

كل مبدع لديه مسودات ومحاولات كتابية غير معتمدة منه ونشرُها عقب وفاة صاحبها أمر غير موفق

ويشير هؤلاء إلى أن منطق الاستسهال يقود مجتمع النشر في الغالب إلى طرح كتب لأسماء مشهورة، لأن تسويقها يعد أمرا مضمونا، فهي تخص كتابا رحلوا منذ سنوات وما زال الجمهور يقبل على قراءتهم حتى الآن، وهي كتابات لم يسبق طرحها في كُتب مطبوعة ما يثير شغف القراء.

ويوضح ياسر رمضان مدير دار كنوز للنشر بالقاهرة لـ“العرب” أن العبرة في هذا الشأن تكمن في ما ينص عليه القانون من حق ورثة المبدع أن يحلوا محله تماما في التعامل مع حقوق الملكية الفكرية بعد وفاته، لذا فإنه لا يوجد ما يمنعهم من تقديم نصوص جديدة له.

15