"دوري الكنائس" في مصر.. التصدي للتفرقة الدينية بالمزيد من الانطواء

كثر الحديث في مصر خلال الأيام الماضية عما يسمّى بـ"دوري الكنائس" الذي يقام خلال شهري أغسطس وسبتمبر، وتم الترويج له من قبل وسائل إعلام مسيحية تصدر خارج مصر بأنه بديل إجباري لما وصفوه بـ"العنصرية" السائدة داخل الملاعب الرياضية من جانب مدربين مسلمين تجاه لاعبين مسيحيين، وهو ما يعمّق العزلة التي لا تعالج إلاّ بكسرها عن طريق المبادرة من جميع الأطراف.
الخميس 2016/09/01
الفتنة نائمة وكثيرون يريدون إنقاذها

القاهرة- مع أن الحكومة المصرية تحاول إنهاء المشكلات التي تؤرق الأقباط، غير أن هناك تصرفات تثير القلق وتبعث برسائل خاطئة، حيث تريد بعض الأطراف تصوير المسألة على أنها فتنة طائفية حقيقية، لذلك تتعمد تضخيم في أي مشكلة صغيرة، وتهيئة البيئة أمام أخرى كبيرة.

“دوري الكنائس” في مصر، الذي يجرى تنظيمه سنويا، لا يدعم بأي شكل من الأشكال الدولة المدنية التي يؤكد عليها الدستور المصري، فلا يلعب فيه الشاب المسيحي إلا مع مسيحي مثله دون اختلاط مع لاعبين مسلمين. لكن هل العنصرية وحدها هي من تقف وراء ازدهار عالم سري كروي للمسيحيين في مصر أم أن السبب هو الفكر الانعزالي (الجيتو) الذي تشكل في اللاوعي المسيحي واختصر الكثير من أوجه الحياة داخل أسوار الكنائس لتبقى العنصر الأساسي في حياة الأقباط ولتظل قناعتهم دوما بأن قوتهم داخلها وليست خارجها؟

ما يسمّى بدوري الكنائس تم انطلاقه تدريجيا عام 2002 تحت رعاية أسقفية الشباب التابعة للبطريركية المرقسية، على مستوي جميع محافظات مصر ومتوسط الفرق التي تلعب فيه يبلغ 750 فريقا تضم 15 ألف لاعب. بدأت الفكرة في الظهور من خلال دوريات مناطقية مختلفة منفصلة، كلها كنسية أيضا كـ”دوري مصر الجديدة” وتنظمه الكنيسة الكاثوليكية منذ العام 2005 في حي مصر الجديدة، كذلك دوري “خليك كسبان” الذي تنظمه الكنيسة الإنجيلية بوسط القاهرة وبدأ في العام 2008.

التصفيات كانت تتم على المراكز الأولى في كل أبرشية (وحدات قطاعية كنسية مسؤول عنها أسقف أو مطران) للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية ثم مرحلة شباب الجامعات والخريجين، وبعد أن يفوز فريق أو كنيسة يمثل الأبرشية يتم اللعب بين الأبرشيات لتحدث تصفيات المراكز، ويحصل الفريق الفائز على كأس الكنيسة.

الكنيسة قامت بالعديد من الأنشطة التي ساعدت على توسيع مساحة الانطواء المجتمعي للأقباط

تمييز أم ضغط

أوضح عدد من خدام الكنائس القائمين على الدوري المزعوم (رفضوا ذكر أسمائهم) لـ”العرب” أن تهميش الأقباط أسهم في نشوء عالمهم الكروي هذا، ولأن كرة القدم الأبرز والأفضل عند الشباب، فقد تم تنظيم دوري الكنائس لكرة القدم. وقام الأقباط بتنظيم هذه المسابقة لأن ليست لديهم مساحات خضراء وأندية تستوعبهم، مع أن هناك أندية في مصر يمتلكها أقباط، أشهرها نادي “الجونة” المملوك لرجل الأعمال الشهير سميح ساويرس، ونادي “وادي دجلة” الذي يملكه رجل الأعمال ماجد سامي.

وقال القس جرجس عزيز من مطرانية البحيرة (شمال القاهرة) لـ“العرب”، إن التهميش والتعصب ضد الكثيرين في مجال كرة القدم، يشكلان انعكاسا لصور التهميش للأقباط في مجالات أخرى، كمنصب المحافظ ورئيس جامعة، (هناك وزراء كثيرون في حكومات متعاقبة من الأقباط). وعلى مدى تاريخ النشاط الكروي المصري، لم يتخط عدد اللاعبين الأقباط المشاركين في أندية الدوري الممتاز ستة لاعبين، كان أبرزهم هاني رمزي لاعب النادي الأهلي والمنتخب الوطني السابق، ومحسن عبدالمسيح لاعب الإسماعيلي والترسانة السابق، وأشرف يوسف مدافع الزمالك خلال فترة تسعينات القرن الماضي، وناصر بولس في نادي المحلة، وناصر فاروق أحد أبرز الحراس وقضى سنوات طويلة مع فريق غزل المحلة، وعماد فريد شوقي حارس مرمى نادي حرس الحدود.

وأكد عماد توماس، أستاذ بكلية لاهوت الإيمان وباحث في الشأن القبطي، أن النماذج الإيجابية التي يشير إليها كثيرون كاللاعب هاني رمزي، لا تعكس حقيقة الأمور ولا تنفي التمييز، فمع أن رمزي كان لاعبا موهوبا، إلا أن اسمه لا يشير صراحة إلى أنه قبطي إلى جانب أنه احترف في سن مبكرة ولا يمكن القياس عليه. وأوضح لـ”العرب” أن ندرة اللاعبين الأقباط في المجال الرياضي سببها التمييز الديني خلال الاختبارات التي تجرى للاعبين الناشئين من طرف بعض المدربين، وهو ما يؤدي إلى عدم المشاركة في الاختبارات والاكتفاء بتشجيع الفرق الرياضية، والاتجاه إلى اللعب داخل أسوار الكنيسة في الدوري الخاص بها.

وتتعزز تصريحات توماس بحالات قيل إنه تم استبعادها كونها قبطية، آخرها حالة الطفل مينا عصام، الذي تم استبعاده من اختبارات النادي الأهلي، أحد أكبر الأندية في مصر، ليس لضعف في مستواه، لكن لأنه قبطي. وتم الترويج لحالة مينا بأن السبب وراء استبعاده ديانته، وهو ما نفاه الكابتن إكرامي الشحات مدرب حراس مرمى في قطاع الناشئين بالنادي الأهلي، وأكد أنه لم يرفض خضوع الطفل مينا لاختبارات الحراس بالنادي، بسبب ديانته، لكن لأن اسم الطفل لم يكن مدرجا أصلا على لائحة الكشوف المحدد لها الاختبار ولم يتطرق إلى اسم اللاعب أو طالبه بالخروج، وأن باب النادي مفتوح لمن يريد الاختبار، ولو أن مينا أفضل من المتقدمين سوف يضمه دون النظر إلى ديانته.

لا شيئ يحمي الوجود القبطي أكثر من الهوية الوطنية

الأمر نفسه، حصل منذ حوالي شهرين، بسبب رفض اللاعب توني عاطف استكمال اختبارات الناشئين في النادي الأهلي، رغم الإشادة بأداء الطفل قبل التعرف على ديانته، لكن سرعان ما جرى احتواء الموقف وقرر النادي أن يستكمل اللاعب الاختبارات. وشدد الكابتن عبدالعزيز عبدالشافي “زيزو” رئيس قطاع كرة القدم (المستقيل أخيرا) بالنادي الأهلي، على أن كرة القدم صناعة متكاملة تقوم على الاحتراف، نافيا وجود تمييز ديني ضد الأقباط أو استبعادهم، ودلل على ذلك بوجود لاعبين محترفين غير مسلمين في الأندية المصرية، ملمحا إلى وجود نحو عشرة لاعبين يدينون بالمسيحية من دول أفريقية عدة يلعبون في الدوري المصري.

وأضاف لـ”العرب” أن معظم المديرين الفنيين للأندية المصرية، منهم الأهلي والزمالك وأندية أخرى، هم من الأجانب غير المسلمين، ما يؤكد أن العامل الديني لا يمثل أهمية في اختيار اللاعبين المحليين أو الأجانب أو المدربين.

وبرر “زيزو” قلة اللاعبين الأقباط البارزين في المنتخبات المصرية، بأن نسبتهم إلى إجمالي عدد السكان لا تتجاوز 10 بالمئة، لذلك تبرز غلبة المسلمين على ألعاب الرياضة المصرية. واتفق معه الكابتن أشرف قاسم رئيس قطاع الناشئين السابق بنادي الزمالك المصري، حيث نفى بشدة وجود أي نوع من التمييز الرياضي لاعتبارات دينية. وأكد لـ”العرب” أن اللوائح والقوانين التي تنظم كرة القدم في مصر تحظر تماما التمييز لدواع دينية أو اجتماعية أو سياسية، لأنها مخالفة للدستور والقانون، ويعاقب أي شخص يمارس التمييز.

وأشار قاسم إلى أن الاختبارات الرياضية في النادي لاختيار اللاعبين الجدد هي العامل الحاسم، وأن الموهبة الرياضية واللياقة البدنية تحددان عملية ضم اللاعبين إلى النادي والمنتخبات الرياضية المختلفة، لأن أي فريق حريص على جذب المواهب للحصول على البطولات، ومن مصلحته ضم المتميز بغض النظر عن ديانته. ولم ينف أشرف قاسم أن هناك حالات فردية للاعبين أقباط تم رفض انضمامهم إلى الأندية بسبب نزعة دينية متشددة لدى بعض المدربين أو المسؤولين، لكن هذه ليست ظاهرة لأنه لا يوجد تمييز ممنهج ضدهم.

أشارت بعض وسائل الإعلام في مصر، إلى وقائع تعبر عن وجود ممارسات عنصرية في اختبارات قبول الأطفال بالأندية، بسبب الديانة. الأولى، ذكرها الكاتب خالد منتصر في مقال أخير له، يحمل عنوان “كارت أحمر للمسيحي من المستطيل الأخضر”، نقل فيه رسالة من أحد المسيحيين ويدعى يوسف عن ابنه شادي البالغ 10 سنوات، وكيف غرس فيه الإحساس بالاضطهاد، وأنه لن يلعب الكرة لأنهم لا يقبلون المسيحيين في الفرق، وكان المدرب يقول لهم “للأسف مسيحي”.

الواقعة الثانية، رواها شنودة وهيب في مداخلة مع خالد الغندور، لاعب الزمالك السابق ومقدم أحد البرامج التلفزيونية، عن حالة جرت لأحد المقربين منه بمحافظة المنيا، والذي أخفق عندما حاول الانضمام لفريق نادي المنيا لكرة القدم، حيث رفضه المدير الفني لأنه قبطي، واشترط عليه تغيير ديانته من أجل الانضمام إلى النادي، بحسب قول شنودة.

وكشف عصام عبدالمنعم، الرئيس السابق للاتحاد المصري لكرة القدم، أنه لم تحدث شكاوى خلال رئاسته للاتحاد منذ عشرة أعوام من حالات تمييز أو استبعاد، ونصح الأقباط بالابتعاد عن السلبية أو الاستسلام للشائعات وبعض الممارسات الفردية من قبل متشددين. وقال لـ”العرب” إن كل قبطي يتقدم لاختبارات الكرة في الأندية المصرية ووجد تمييزا ضده أو تم استبعاده بسبب ديانته، عليه أن يتقدم بتظلم وشكوى إلى الجهات المختصة، ومنها اتحاد الكرة لمحاربة مثل هذه الظواهر السلبية. وأضاف تشترك في كأس العالم لكرة القدم منتخبات ولاعبون من دول وجنسيات وديانات وثقافات مختلفة، تنظمها قواعد مشتركة في إطار التعايش والتنافس على إحراز البطولات والميداليات، فكيف لا يحدث هذا بين أبناء الشعب المصري، بمسلميه ومسيحييه؟

الهجرة إلى الكنيسة

برأي متابعين للشأن القبطي، فإن “دوري الكنائس”، وما يدعيه البعض بأن السبب وراء إقامته عنصرية الملاعب المصرية كلام عار تماما عن الصحة، وأن هناك أهدافا أخرى لا علاقة لها بالاضطهاد دفعت الكنيسة القبطية إلى تنظيم مثل هذا الدوري، سواء لكرة القدم أو لباقي الألعاب أيضا. تلك الأهداف تتناسب مع الفكر القبطي العام الداعي إلى أن تكون الكنيسة العنصر الأساسي في حياة الأقباط بمصر، فكان هذا الدوري المزعوم يربط بين شباب الأقباط وصغارهم وبين كرة القدم، لكن ليس خارج الكنيسة.

كأس العالم تشترك فيها منتخبات من ديانات مختلفة، تنظم في إطار من التعايش، فكيف لا يحدث هذا في مصر

وأشار مراقبون إلى أن كرة القدم لعبة جماعية وأغلبية الشباب المصري تمارسها في الشارع، وعندما تكون هناك عزلة داخل الكنيسة، فإنها ستنعزل عن الشعب ولا تمارس اللعبة معه، وبالتالي فقد أصبح وجود أحدهم في الأندية أمرا شاذا. ومن هنا تولدت سلبية الأقباط في مبادرتهم للمشاركة واختراق الأندية الرياضية بمواهبهم، وعزز ذلك عدم مبادرة الأندية لتغيير الفكرة الموجودة لدى الأقباط بأنهم غير مرغوب فيهم وأنهم لا يجذبون اللاعبين الأقباط إليهم. كما أن الهلع الأرثوذوكسي من التبشير الإنجيلي له دور مهم، وقد ظهر ذلك جليا في غضب سكرتير المجمع المقدس من الكنائس القبطية العشر التي شاركت في دوري آخر نظمته الكنيسة الإنجيلية، إذ أنه لو كان الهدف من الدوري إتاحة فرصة اللعب بسبب العنصرية، فلا فارق بين اللعب على أرضية ملعب أرثوذوكسي أو إنجيلي أو كاثوليكي.

ويذكر أن مجلة “روزاليوسف” المصرية كانت قد نوهت إلى أن أزمة كبيرة ارتبطت بما يسمى بدوري “خليك كسبان” الذي تقيمه الكنيسة الإنجيلية، عندما اكتشف الأنبا بيشوي (سكرتير عام سابق المجمع المقدس) أن قرابة عشر كنائس أرثوذوكسية شاركت بفرق تابعة لها في هذا الدوري مع 22 فريقا من التابعين لكنائس إنجيلية. واعتبر الأنبا بيشوي أن ذلك يعني بداية محاولة من جانب الكنيسة الإنجيلية عن طريق كرة القدم لاستقطاب شباب الكنيسة الأرثوذوكسية، ومع أنها كانت أزمة حادة إلا أنه جرى احتواؤها وتجاوزها سريعا.

وقال مراد مرقس، باحث متخصص في الشأن القبطي، إنه قبل ثورة 25 يناير 2011 كانت الكنيسة تمارس بالفعل الوصاية الكاملة على المسيحيين، سواء في مجال السياسة أو الرياضة أو غيرهما، لتأكيد هيمنتها على شؤون الأقباط، كرد فعل على تمييز المجتمع ضدهم. وحدثت العديد من الممارسات الطائفية في فترات تاريخية كتهميش المسيحيين بعد ثورة 23 يوليو 1952، والتعامل معهم من خلال شخص البابا تسبب في بروز ظاهرة ما يعرف بـ”الهجرة إلى الكنيسة”، في ظل ظهور عوامل أشعرت الأقباط بأنهم أقلية عددية.

وزادت ممارسات الكنيسة وتكوينها لعالمها الخاص من تأجيج تلك الظاهرة، حيث قامت الكنيسة بالعديد من الأنشطة التي ساعدت على توسيع مساحة الانطواء المجتمعي للأقباط. لكن بعد ثورة يناير بدأت هذه الوصاية تتآكل وتتراجع بشكل كبير، خاصة بين جيل الشباب الذي انخرط في الثورة وأخذ يتمرد على هيمنة الكنيسة في مجالات مختلفة منها الرياضة، وهو ما يفسر لماذا يتقدمون الآن إلى الاختبارات في الأندية، ويطالبون بحقوقهم ويصرون على التصعيد من خلال وسائل الإعلام رافعين شعار “لا للتمييز”.

13