"دوائر من حرير".. قصص يمكنك أن تشمها

السيد نجم يكرس متتاليته القصصية للروائح لينفذ إلى عمق الأشياء.
الأحد 2023/03/05
الشم حاسة محورية (لوحة للفنان سامر طرابيشي)

قدمت السينما الألمانية فيلما عالميا نال نجاحا واسعا بعنوان “عطر قصة قاتل” من إخراج توم تايكور والفيلم مأخوذ عن رواية “العطر” للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، ومن شاهد الفيلم أو قرأ الرواية سيرى ويفهم أهمية حاسة الشم بل وتأثيرها المحوري في البشر. الكثير منا في الحياة تحرك الروائح ذكرياته وحالاته النفسية وحتى أفكاره، ومن هنا اقتنص الكاتب المصري السيد نجم أهمية الرائحة وخصص لها كتابا قصصيا كاملا.

تتألف المجموعة القصصية “دوائر من حرير” للكاتب السيد نجم من دائرتين كبيرتين تحتويان على مجموعة من القصص التي تشكل فيما بينهما ما يسمى بالمتواليات القصصية، وهي دون الرواية وفوق القصة القصيرة، أو أنها تقع في منطقة وسطى بين الرواية والقصة القصيرة .

ولا يخرج الكاتب كثيرا عن عالمه الإبداعي الذي عرفناه في أعمال سابقة سواء فيما يتعلق بأدب المقاومة، سواء هذه المقاومة، ضد العدو أو ضد الآخر العدواني بصفة عامة، أو ضد المخلوقات الأخرى، أو ضد النفس والجسد أيضا. فضلا عن عوالم الماء والرائحة والليل والظلام وغيرها من عوالم تشكل محاور أو ملامح أساسية في إبداع الكاتب.

للرائحة عالمها

في "دوائر من حرير" يتبادل الأدب والعلم التأثيرَ والتأثر، حتى في عالم الروائح التي شممناها واستمتعنا بها واستنشقناها
في "دوائر من حرير" يتبادل الأدب والعلم التأثيرَ والتأثر، حتى في عالم الروائح التي شممناها واستمتعنا بها واستنشقناها

لعلنا نستطيع أن نتوقف عند ملمح الرائحة في هذه المجموعة القصصية أو المتواليات القصصية في مجموعة “دوائر من حرير” لنستجلي مفرداته وكيف تعامل معها الكاتب بما أنها من الموضوعات أو المفردات الأثيرة لديه.

فما الرائحة؟

الرائحة في اللغة، هي النسيم الطيب أو النَّتِن. (الجمع: رَائِحَاتٌ ورَوَائِح). أو هي النسيم المستنشَق طَيِّبًا كان أو خبيثا. والرَّيْحَة هي الرائحة.

وفي موسوعة “المعرفة” نجد أن الروائح (odor)، هي مركبات كيمياوية متطايرة ناتجة من مواد طبيعية أو مصنَّعة يتحسس بها الجهاز العصبي عن طريق حاسة الشم التي تعكس الحالات الانفعالية والسلوكية للإنسان أو الحيوان. وتوجد أجهزة تقنية حديثة، حسَّاسات، تتحسس بالغازات التي تتحول إلى لون أو إشارة رقمية أو صوتية أو ضوئية أو بيانية. وهناك الروائح العطرة: كالعطور والمسك والعنبر والبخور. والروائح المنعشة: كالأكسجين والكحول والبصل. والروائح المخدرة: روائح المشتقات النفطية (الغاز، البنزين، الكيروسين، المازوت). والروائح الواخزة: روائح الخردل والفلفل. والروائح الكريهة: كالمواد المتعفنة أو المصنعة فاقدة الصلاحية أو نواتج التفاعلات. والروائح السامة: كالفوسجين وغيره.

وقد ظهرت أول رائحة في مجموعة “دوائر من حرير” في ص 18 (النص الخامس “في رحاب الولد”) من خلال عرق الإبطين. وفي النص السادس من خلال زجاجة العطر، وأريجها. والأَرِيجُ والأَرِيجَة: تَوَهُّجُ ريحِ الطيب وتوقُّدها. وأرِجَ أرَجا وأريجا وتأرَّج: فاحت منه رائحة طيبة، فهو أرِج. يقول الشاعر عزت الطيري: وللوردِ حرفتُهُ/ في ابتكارِ الأريج.

ويقول السيد نجم “كانت هي، بصوتِها، وأريجِها، وحضنِها، تسكنُ كهفَ قلبه”.

ثم نشم رائحة الفسيخ (ص 28) التي تظهر مع الفلوس، فرائحة الفلوس التي وجدوها في الصندوق الأسود الخشبي بجوار فرشة نوم عم محرز، كانت هي دليل إدانته، وقد شمَّها الصبي بندق فأرشد عن زوج عمته، ببراءة شديدة. حيث أرسل الجد عم محرز لشراء فسيخ مخزن ومبطرخ في يوم شم النسم، فعاد محرز فخورا بما أنجز. وبعد أن التهمت العائلة الفسيخ والبصل الأخضر التهاما، ثم احتسوا الشاي، سأل أحدهم: أين باقي الفلوس يا محرز؟ فانفعل محرز وغضب وأشعل سيجارة، وكشَّر في صمت، فأرشد بندق عن مكانها، ولكن محرز قال للجد: فلوسي يا حاج. فقال بندق لجده: الفلوس رائحتها فسيخ يا سيدي، لا تصدقه، الفلوس رائحتها فسيخ. لنكتشف بذلك كذب محرز من خلال عالم الرائحة.

وما شغل بندق بعد ذلك هو حكاية أنفه الحسّاس، والتي كانت سببا للضحك كلما جمع العائلةَ مجلسٌ. ولكن لا ينتهي الأمر عند هذا الحد. فللرائحة عالمها الخطير والمؤثر. والأنف هو جهازنا البشري، ودليلنا الشَّمّي إلى عالم الروائح الزكية والخبيثة، الطيبة والكريهة. إنه ذلك العضو الذي يُستخدم في التنفس والشم، وهو يقع فوق الفم مباشرة، ويبدو بسيطًا من الخارج، ولكنه معقد التركيب من داخله. ويحدث الإحساس بالشم في الجزء العلوي من التجويف الأنفي، حيث مستقبلات عصب الشم التي توجد في  جزء صغير من الغشاء المخاطي. وترتبط حاسة الشم بشكل وثيق جدا بحاسة الذوق، ويعتقد البعض أن كثيرا من أحاسيس الذوق هي في حقيقتها إحساس بالرائحة مصاحب لبعض النكهات.

الأنف نافذة على الأعماق (عمل للفنانة نور عسلية)
الأنف نافذة على الأعماق (عمل للفنانة نور عسلية)

والأنْف في اللغة هو النَّخْوة وموضع التَّجَبُّر. وجمع أنْف: آنُفٌ وأُنُوف، وأضاف سيبويه: آناف. ورجل أُنافيٌّ: عظيم الأنف. والأَنُوف من النساء: طيبةُ ريح الأنْف. ويُقال على الأنف: الخَشَمُ، في حالة فقدان حاسَّة الشمِّ.

لقد قادت حاسة شم بندق إلى مصدر رائحة الحشيش والمخدرات في الغرزة أو الوكر، حيث قال بندق لصاحبه غريب: أشم رائحة لم أعرفها من قبل، عطرها غريب. فاقترح عليه غريب أن يسيرا ناحية مصدر تلك الرائحة.

وعندما يصلان إلى الغرزة يقترحان على صاحبها الخواجة يني أن يعملا لديه، ليكتشفا عالما جديدا في تلك الغرزة التي يذهب إليها الخفير عبدالعال، وحمزاوي بك ضابط البندر، والعمدة ريحان لتعاطي المخدرات. فالكل سواء أثناء التعاطي.

ويتضح لنا أن كل أهل كفر الدوّار يعرفون مكان “الغرزة” وما يدور فيها أو تخيل ما يمكن أن يكون فيها ليلا، ولا أحد يعقّب أو يسعى للحديث عنها، وكأن الصمت أخفاها عن الوجود أو يمكن أن يُخْفيها.

في هذه الغرزة، تتضح مهارة حاسة بندق الشمية والتي تذكرنا بمهارة حاسمة الشم عند جان باتيست غرنوي المولود في السابع عشر من يوليو 1738 في أكثر أماكن المملكة الفرنسية زخما بالروائح، وهو البطل الرئيس في رواية “العطر” لمؤلفها باتريك زوسكيند، والتي ترجمها إلى العربية الدكتور نبيل الحفار، وصدرت عن المجمع الثقافي بدولة الإمارات العربية المتحدة، والتي سبق أن ناقشتُها مع الكاتب السيد نجم في إحدى الندوات بالإسكندرية منذ سنوات.

للرائحة عالمها الخطير والمؤثر والأنف هو جهازنا البشري ودليلنا الشَّمّي إلى عالم الروائح الزكية والخبيثة، الطيبة والكريهة

أما بندق فقد استطاع أن يفرِّق بين رائحة الحشيش ورائحة الحنّاء الذي يخلطه الخواجة يني بالحشيش. كان بندق يتشمم مقطوعات الحشيش ويحكم عليها، ما أدهش الجميع. مرة الحنّاء المخلوطة بالحشيش بكميات كبيرة، ومرة يعرف من الرائحة أن الصنف مخزن منذ زمن طويل، ومرة ثالثة يعرف أن الفحم المشبع بالرطوبة لم يسوّ القطعة الصغيرة جيدا، مما يؤدي إلى انقطاع نفس الزبائن وتعكر مزاجهم.

لقد أعطت هذه الميزة الشمية لبندق نوعا من الحكمة والدهشة فبدأ يسأل صاحبه غريب: هو البني آدم في الليل غيره في النهار؟ ليجيب غريب إجابة غريبة تشاكل اسمه: طبعا لأن الدنيا عتمة.

ويعمِّق السيد نجم عالم القصة عندما يخبرنا أن ضابط البندر الذي يتواجد كل ليلة في الغرزة يعلن صراحة أنه لم تصله بلاغات من أهل القرية ولا حتى من العمدة نفسه أن بالغرزة ما هو غير قانوني، أو حتى توجد “غرزة” في الكفر.

ومن عالم روائح الحشيش والمخدرات في القصة السابقة إلى عالم رائحة البارود في القصة التي حملت العنوان نفسه، ففي لقاء حميمي بين الجندي العائد من الحرب وزوجته، فضلت الزوجة أن تخلع عن زوجها ملابسه العسكرية، علَّها تُزيح عن أنفها رائحة العرق التي هي أقرب إلى رائحة البول.

شخصيات تحركها الروائح

Thumbnail

في قصة “طقسٌ شديد البرودة” سنجد أن رائحة فنجان القهوة المصنوع من البن المحوج، تسبب نوعًا من السعادة لبطل القصة، على الرغم من أن جيرانه يخبرونه باحتضار صديقه الذي يقطن الحجرة العلوية على سطح العمارة. وهي الرائحة نفسها التي نكتشفها في قصة “الجنرال يشرب القهوة” حيث تتكوّن عبوة البن المطحون من خليط من الروائح النفّاذة المسيلة للعاب والتي يعدها عم “بركة” البنَّان بحذق وخبرة ويضيف كل ما يجعل البن المطحون له مذاقا معشوقا للذوَّاقة، وهنا يتأكد لنا ارتباط حاسة الشم بحاسة الذوق.

ولقوة العلاقة بين الجنرال والبنّان فقد تركه يعد خليط البن بنفسه حيث يضع الجنرال حبات البن اليمني المخصوص الساخن ويطحنها بنفسه في مطحنة نحاسية صفراء صغيرة خاصة، وبين الحين والحين يضيف: مرة “الحبهان” ثم يوقف المطحنة، ويرفع الغطاء يتشمَّم لثوانٍ قليلة، ثم يضيف “المستكة”، ويعيد الكرَّة ليضيف من مطحون “جوزة الطيب” و”القرفة” و”القرنفل” ولا يكتفي بما بلغ خياشيمه، يقبض القليل بين مقدمة إصبعيه السبابة والإبهام وبطرف لسانه يتذوق شاردا، بما يؤكد مرة أخرى مدى الارتباط بين حاستي التذوق والشم لدى الإنسان ومعظم الكائنات الحيّة.

القصص جعلتنا نعيش مع عالم الروائح بكل تغيراته إذ نشم روائح ذكية وروائح كريهة أو غير مستحبة

لكن هذا الجنرال يشم رائحة أخرى ربما تكون رائحة نفسية، وهي “رائحة كمكمة الأيام التي لم يشمّها إلا الآن”. إن لهذه الرائحة دلالة نفسية عميقة، وخاصة في شهر طوبة البارد، حيث البرودة والوحدة والزمان العتيق الذي يجثم على صدر هذا الجنرال الذي أحيل إلى التقاعد أو المعاش بعد ثورة 25 يناير حيث نفرَ الشبابُ الثائر ووقفوا في وجهه يصيحون. عجز عن توجيه هراوات جنوده نحو رؤوسهم العليا، صاحوا في وجهه. وكان الاختبار قاسيا، الإحالة إلى المعاش أو توجيه تهمة موثقة بالتصوير.

ولم يجد الجنرال من انتشاء في حياته سوى نشوى رائحة أبخرة هينة يقذفها سطح القهوة المتماسك “وش القهوة” فيسرع إلى الرشفة الأولى، ويا لمذاق الرشفة الأولى.

ومن الجنرال الذي عجز عن توجيه هراوات جنوده إلى المتظاهرين، وعَشَقَ رائحة البن، إلى قصة “غدا مظاهرة” والتي تتجلى فيها رائحة أصابع الكفتة المشوية، و”الشمَّامة” التي تكرّر ذكرها أربع مرات في ص 107 والشمَّامة هنا تشبه “أبو رجل مسلوخة” أو “الغول” أو الكائنات التي يخوّفون بها الأطفال. يقول الأب شديد لولديه بعد أن يعطيهما قطعة من أصابع الكفتة في ليلة الجمعة من كل أسبوع “كُلْ منك له، وعلى السرير حالا، قبل ما تحضر “الشمَّامة” وتأكل الكفتة منكم”.

وفي طريقهم للاشتراك في المظاهرة بالقاهرة تحضر سندويتشات الكفتة وروائحها في الأتوبيس الذي يحمل المتظاهرين إلى ميدان التحرير. ولأن المسافة طويلة يقول الطفل الصغير لنفسه (ص 110) “كان ممكن أصبر على الجوع، وعلى الروائح، لو كانت المسافة هينة، لكن المسافة طالت، الظاهر القاهرة بعيدة”.

إنهم ينساقون للمشاركة في مظاهرة مقابل سندويتشات الكفتة، وعشرين جنيه لكل فرد مشارك ورحلة بالأوتوبيس إلى القاهرة، لنكتشف عالم ما وراء المظاهرات وكيفية إعدادها وتنظيمها والإغراءات التي يلوِّح بها المنظمون لها للناس الغلابة الذين يتضح عدم اقتناعهم التام بجدوى تلك المظاهرات حيث نجد شديد وأسرته يصلون إلى الميدان، ثم يبحثون عن ظل شجرة يستظلون بها بعيدا عن ضجيج المظاهرة، وإلى حين ميعاد العودة.

أما في قصة “النافدة” فنجد العجوز التي تسكن في البدروم وتجيد التقاط روائح أرضية الحارة المبتلة وسكانها. وهي قادرة على قبض الروائح المنهارة تحت فتحتي منخارها، فتلوي شفتها العليا وتعيد اختبار حنكتها بسحب الشهيق، وتغمض العينين وجام انتباهها في اختبار قدرة أنفها. ويؤكد أنفُها ما رأته العينان، فتحزن لأن الأمطار تمنع تجوال الناس في الشارع الذي هو سلوتها الوحيدة، حيث ترى من نافذة البدروم، التي هي بمستوى حافة الرصيف، أنصاف الناس وأحذيتهم أثناء عبورهم. وتفتقد هذه السلوى في حالة هبوط الأمطار، فتدعو الله قائلة “يا رب هذا قدرك.. أن تجعله رذاذا لا يشغل النسوة عن وجهتِهن، ولا الرجال عن خطواتهم القوية، ولا الأطفال عن لهوهم بجوار النافذة”. ولكنها تشم روائح أرضية الحارة المبتلة ومع ذلك تردد دعاءها السابق قائلة “لن أبرح النافذة حتى تسمعني يا الله”.

شخصيات قصصية تتحكم فيها الروائح مثل الجنرال الذي عجز عن توجيه هراوات جنوده إلى المتظاهرين والعجوز وغيرهما

في قصة “باب الروح” نشم رائحة العرق الذي يصبغ قميص شخص القصة، وروائح المهرولين الكريهة التي تلطمه كل صباح. وحينما يتقدم ببلاغ لضابط المخفر بسبب سرقة روحه فلم يعد يكتب القصيدة، فهو شاعر، ينصحه الضابط متهكما ألاّ يكتب قصيدة، وإنما يكتب كتابه، فهو لم يلمح دبلة الزواج في إصبعه. وعندما يصر شخص القصة على شكواه الغريبة يهدده الضابط بالمبيت في التخشيبة، وينفذ تهديده ويُرمَى بشخص القصة في التخشيبة محشورا بين روائح قميئة وعتمة غريبة.

أما يوسف عرفة في قصة “مواجهة” فقد كانت أيامُه ولياليه عديمةَ اللون والرائحة والمذاق إلى أن يواجه شبح الموت وقد تجسد جليا في بريق زجاج بوابة الفندق الذي يعمل به.

في النص الأخير الذي يحمل عنوان “ماذا يقول الطالع؟” نشمَّ صوتَ النادل النوبي العجوز الهامس المعبَّأ برائحة عطر يخصه لا يعرفه شخص القصة ولا غيره. وهنا فإن شمَّ الصوت يجئ كناية عن رائحة الفم الذي يخرج منه هذا الصوت. إن هذه الرائحة تقتحم أنف شخص القصة والذي يقول عن النادل النوبي “اقتحم أنفي برائحته”.

طبائع الأشياء

لكل رائحة لونها الخاص
لكل رائحة لونها الخاص

هكذا عشنا مع عالم الروائح في المتواليات القصصية “دوائر من حرير” لكاتبها السيد نجم التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 2022 وشممنا روائح ذكية، وروائح كريهة أو غير مستحبة، عن طريق النفاذ إلى طبائع الأشياء، ومحاولة الوصول إلى أسرارها. وأدركنا ما ذهب إليه العلم الذي يؤكد أن لكل إنسان بصمة لرائحته المميزة التي ينفرد بها وحده دون سائر البشر أجمعين، والآية 94 في سورة يوسف تدل على ذلك. قال الله تعالى: “وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ”. ففي هذه الآية الكريمة تأكيد لبصمة رائحة سيدنا يوسف التي تميزه عن كل البشر، والتي شمَّها أبوه النبي يعقوب على مسيرة ثمانية أيام. واستغلت هذه الصفة المميزة أو البصمة في تتبع آثار أيّ شخص معين، وذلك باستغلالها مثل كلاب “الوولف” التي تستطيع بعد شم ملابس إنسان معين أن تخرجه من بين آلاف البشر.

وهكذا يتبادل الأدب والعلم التأثيرَ والتأثر، حتى في عالم الروائح التي شممناها واستمتعنا بها واستنشقناها في “دوائر من حرير”، وسبق أن شممنا بعضها في رواية “تلك الرائحة” للروائي المصري صنع الله إبراهيم، ورواية “رائحة الموت” للكاتبة المغربية ليلى مهيدرة. وغيرِها من الأعمال الأدبية.

وأختتم هذه القراءة في العالم الأدبي للرائحة، بما بدأ به الكاتب مجموعته في أحوال الدائرة الأولى وورطة ضمير المخاطب حيث يقول شخص القصة “أميز ما تتميز به القصة أنها تحميني من سطوة جهات خفية، تعلم أنني من هؤلاء المتابعين الفاهمين ولكنني من الخبثاء فلا أفصح عما أريد، ولم أعبر الخطوط الحمراء.. وأستطيع أن  أقسم بغليظ الأيمان أمام القاضي، وأنا أضع المصحف على صدري.. إنني لا أعني ما يتهموني به”.

وهو ما يذكرني بما قاله نجيب محفوظ في “الليلة الأخيرة”: “أحب أن أوضح أن سيرتي الشخصية التي لا غبار عليها هي التي تحميني دائما من أيّ بطش، فأنا لستُ منضمًا إلى خلية، ولا متصلا - والحمد لله - بسفارةٍ أجنبية، كل ما يمكن أن يُقال إذا وقع شيء لا يحمد عقباه: أهو .. أديب وبيهجَّص .. يعني مش داخل في مخطط”.

11