دموع في النيل
كانت ليلة مختلفة وليست كباقي الليالي، فقد داعبت تفاصيل الرحلة النيلية مخيّلة الصغار وهم يجهّزون الملابس الجديدة “ملابس العيد” للتنزه في النيل. فرغم أن الدعوة كانت لحفل زفاف إلا أن الأطفال لا يعنيهم المسميات، لا يحلمون بغير اللعب والمتعة بالتجول في “مركب” نيلي بسيط يؤمّن لهم متعة المغامرة ومشاهدة النيل من المنتصف والانتقال من صفوف المشاهدين حول الضفاف عن بعد.
جهزت بسملة ذات الخمس سنوات ملابسها الجديدة، أعدت فستانها المزركش بالألوان والورود والفراشات الحرة مثل أحلامها البريئة، تيقّنت من أن شرائطها الملونة تكفي شعرها المسترسل الطويل، وضعت حذاءها الجديد إلى جانب سريرها. نامت تغزل الحلم بيديها، لم تترك هذا المساء يأتي لها بحلم عفوي كما يشاء. استمعت إلى كل كلام الأم في طاعة تخالف تمردها ولكنها تتسق مع رغبتها الجامحة في نيل رضا الأم خشية أن يكون العقاب هو الحرمان من حضور الحفل والنزهة.
بلغ مصطفى عامه الرابع عشر منذ أشهر وخط الشعر الأسود طريقا له فوق شفاهه الغليظة، هكذا خطا خطواته الأولى نحو الرجولة وبدأ يعمل أعمالا بسيطة ولكن راتبها كان يمثل له ثروة باهظة بطعم النجاح ومذاقا جديدا لم يعهده من قبل، اشترى ولأول مرة هدية لأمه كما أخرج بعض الجنيهات لأبيه علها تساعده على نفقات الأسرة الكبيرة، اشترى ملابس جديدة مما اكتسبه من عرق جبينه واشترى له والده كباقي الأعوام، ولكنه قرر أن يرى النيل بملابسه التي تعلن شهادة ميلاد رجولته ودخوله عالم الكبار.
تهيّأ للرحلة منذ الصباح، وفي المساء حين مال وجه القمر على صفحة الماء وداعب موجة جاءت على مهل قبل أن ترحل تحت المراكب البسيطة لتفسح الطريق إلى أخرى قادمة من بعيد، تلألأت أضواء المركب لاستقبال العروسين والمدعويين، وتعالت ضحكات الصغار وزغاريد النساء، تصفيق الحضور كان كفيلا بطبع ابتسامة عريضة على شفاه الجميع. ولكن الجشع الذي يسرق الفرح من البسطاء دائما كان شاهدا على اللوحة الجميلة التي لم يشأ لها أن تكتمل، فقد تجاوز صاحب المركب العدد المسموح به، وأهمل واجبه في الحفاظ على أرواح الركاب حين اقترب منه صندل بحري اقتسمه إلى نصفين، وتطايرت جثث الضحايا على صفحة الماء.
فردت بسملة الصغيرة يديها تنتظر من يمسكها، ينقذها، لكن الجميع كانوا مشغولين بانتشال أرواحهم من قاع النيل وظلمة الطمي الأسود، لم تفلح بعض محاولات يائسة من ركل الماء والنجاة.
كتب الموت نهاية حزينة وباردة لأناس يبحثون عن متعة لحظية لم تكتمل، هل فكر هذا السائق المستهتر والطامع في حفنة جنيهات لا تسمن ولا تغني من جوع؟ كم من النساء أصبحن ثكالى وكم منهن انضممن باكيات إلى صفوف الأرامل، وكم من كتف فقد اليد التي يمكن أن تربت عليه، كم طفلا وطفلة فقدوا الأخ أو الأخت الذين يلعبون معهم ويتقاسمون سويا الخبز والأحلام، وكم دمعة غرقت في النيل العظيم؟