دموع النخبة التونسية

يتوجب على هيئة الحقيقة والكرامة ومن يدعهما أن يدركوا أن “ثورة الحرية والكرامة” لن يكتب لها النجاح إذا ما كان الهدف منها تقويض النخبة التونسية وإهانتها وإذلالها والانتقام منها ومن رموزها.
الثلاثاء 2018/10/30
النخبة التونسية هي صانعة التاريخ التونسي الحديث

في برنامج تلفزيوني، لم يتمكن الدكتور أحمد فريعة الذي كان وزيرا للداخلية في الساعات الأخيرة التي سبقت سقوط نظام بن علي، من السيطرة على نفسه، وأجهش بالبكاء. وسبب ذلك أن القضاء أعاد محاكمته مرة أخرى بعد أن كان قد برّأه سابقا، مُصدرا قرارا يقضي بمنعه من السفر. والواضح أنه فعل ذلك بسعي حثيث من “هيئة الحقيقة والكرامة” التي أوكلت لها “ثورة الحرية والكرامة” تعزيز وإنجاح العدالة الانتقالية، والمسار الديمقراطي. وبتأثير من هذه الهيئة التي تشرف عليها يسارية متحالفة مع حركة النهضة الإسلامية، تمت محاكمة العديد من رموز النظام المنهار خلال السنوات الماضية.

والحقيقة أن تلك الدموع التي ذرفها على الهواء أحد أعمدة الدولة التونسية، جسدت وَجعَ النخبة التونسية المنتصرة للحداثة والتقدم، والتي تعمل حركة النهضة وحلفاؤها بمختلف مشاربهم السياسية والأيديولوجية على تفتيتها، بل ومحوها من الوجود، لكي تتمكن من السيطرة المطلقة على البلاد والعباد.

ويمكن القول إن النخبة التونسية هي صانعة التاريخ التونسي الحديث بمختلف أطواره.

وأول نواة لهذه النخبة برزت في أواسط القرن التاسع عشر. وكان المصلح الكبير خير الدين باشا صاحب كتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، رمزها الكبير. وبتأثير منه، وهو الذي كان معجبا بالثورة الفرنسية وعارفا بالدساتير الأوروبية، حظيت  تونس بظهور أول دستور ضمن للحريات في العالم العربي، وذلك عام 1861. وبفضله تأسست “المدرسة الصادقية” التي منها تخرج الفوج الثاني من النخبة التونسية المنفتحة على الثقافة الأوروبية، والحاذقة للغة الفرنسية، والمتطلعة للتقدم والرقي، والمفتونة بفلاسفة الأنوار.

وقد قام البشير صفر الذي كان الوجه البارز لها بتأسيس “المدرسة الخلدونية” بهدف نشر أفكار الحداثة والتنوير ومقاومة التزمت والرجعية الدينية تحديدا. وبفضل تلك المدرسة، ظهر الفوج الثالث من النخبة التونسية الذي عمل على توسيع قاعدته الشعبية لتنتشر أفكاره  التحررية في المدن الداخلية.

وكان الشيخ عبدالعزيز الثعالبي أبرز وجوهه. وتحت تأثير كتابه الشهير “روح التحرر في القرآن”، غزت الأفكار التنويرية جامع الزيتونة الذي كان يسيطر عليه الشيوخ  السلفيون، الرجعيون. وخلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، عرفت تونس “ثورة” ثقافية وفكرية حقيقية تجسدت من خلال أشعار أبي القاسم الشابي وكتابه “الخيال الشعري عند العرب”، وأفكار الطاهر الحداد الإصلاحية التي عبر عنها في كتابيه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الذي انتصر فيه لحرية المرأة، و”العمال التونسيون” الذي ساند فيه أول تنظيم نقابي للدفاع عن حقوق العمال والفلاحين.

كما تجسّدت من خلال كتابات جماعة “تحت السور” الذين أسسوا للكتابة القصصية الحديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وخلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ظهر أيضا الجيل الذي قاد حركة التحرّر الوطني. وبعد حصول البلاد على استقلالها، كان هذا الجيل هو من أرسى دعائم النظام الجمهوري الذي أنجز إصلاحات هامة في مجال التعليم، وحرية المرأة،  مقاوما التزمت والتحجّر الديني والعقائدي.

يقول ألبير كامو “إذا ما فشل الإنسان في المصالحة بين العدل  والحرية، فإنه سيفشل في كل المجالات الأخرى”. لذلك يتوجب على هيئة الحقيقة والكرامة ومن يدعهما أن يدركوا أن “ثورة الحرية والكرامة” لن يكتب لها النجاح إذا ما كان الهدف منها تقويض النخبة التونسية وإهانتها وإذلالها والانتقام منها ومن رموزها. ولن تكون النتيجة في نهاية المطاف سوى إشعال الفتن ونشر الفوضى المدمّرة والقاتلة.

14