"دمعة وحيدة مطر كثير".. قصائد غزل أنثوية

الرقة سمة أساسية في الشعر، ونجدها بشكل خاص في شعر الغزل بما يحمله من شحنات عاطفية. ولا يمكن للشعر أن يخلو من العاطفة، ولذا ظل الغزل سواء كغرض شعري مستقل أو كنَفَسٍ في قصائد مختلفة الأنماط، الثمرة التي يلاحقها الشعراء، ولكن الغزل الذي تكتبه الشاعرات له ميزة خاصة.
هل حقا يحتاج ديوان غزل لأنثى؟ تتصفح أوله بسبب الضجر فيجرك بسحره الملعون إلى النصف ثم تسحبك المتعة الممنوعة حتى النهاية، هل يحتاج هكذا ديوان لناقد يقدمه على طبق من الكلمات؟ كيف ذلك والشعر مشاعر الأنثى منهلها، والسحر جمال الأنثى وهي سيدته، والمتعة غواية وقصيدة الغزل ربة الغواية.
إنه ديوان “دمعة وحيدة مطر كثير” للشاعرة العراقية دلال جويد، هذا ما أحدثك عنه يا قارئي العزيز. هو ديوان بنكهة قصائد هجرنا متعتها بسبب الأزمات والحروب، وأعادتها إلينا العزلة والانقطاع بسبب الوباء.
زهرة الميموزا

تبتعد الشاعرة عن المثيرات اللغوية أو الصُوريّة في قصيدة الغزل وتتجنب الرغبات الجسدية لتحافظ على السمة الإنسانية
عندما يفصلك ديوان شعر عن القلق والترقب، ويأخذك إلى عالم تتفاعل فيه الأفكار ومنطقها، والمشاعر ورقتها، والخيال وانفلاته، تأكد بأن بين يديك تجربة شعرية متميزة لشاعرة متميزة هي دلال جويد.
تقدم دلال هويتها في مطلع الديوان بثلاث جمل لندخل عوالمها الشعرية من بوابة لا تحتاج الطرق لأنها مثل مضايف الأهوار بلا أقفال تحجب الكرم.
تقول الشاعرة: أنا امرأة ريفية بسيطة/لا أتناول ثمرة الحب بالشوكة والسكين/ويسعدني أن يندلق عصيرها على روحي”، وتقول أيضا: “تتدلى من زناري أشعار ريفية/ونساء غيّبهن العشق”، وتضيف في نص آخر “سكنت بيتاً بحجم قلب/له باب موارب/لا أقفال فيه/ولا يغلق مصراعيه بوجه غريب”.
إذن هي بنت الريف العراقي، بنت البساطة التي تطمئنّ لها القلوب وتهجع، وصاحبة روح إرثها قصائد وسمر. لكن تذكر وأنت تدخل عوالم جويد الشعرية بأن صاحبتها حرة متمردة مثل غواية، رقيقة حساسة مثل ميموزا، مفكرة متسائلة مثل فيلسوفة، وما القصيدة إلا أحاسيس وخيال وتساؤلات اغترابية؟
تقول الشاعرة: “لم تطربني كتب المواعظ/ولا أبجل معرفة بلا تمرد/لا أنتمي لهذا الخضوع”، وفي نص آخر “أسفر عن روحي/ولا ألوي عنق القصيدة كي تستحي”، وفي نص آخر تكتب “أنا زهرة الميموزا/ أنكمش من اللمسة غير الحنونة/أنا الميموزا أتسلح بالحب الجارف كي لا تدميني”.
وتتابع الشاعرة “هل يسيل دم الشارع إذا جرحته مفخخة؟/وهل تعرف الحرب أنك وحدك تمتلك سر الليل إلى قلبي؟”.
دلال جويد شاعرة لا تحمل القصيدة، كتجربة وجدانية إنسانية في استجابتها الأنوية، بل تترك للقصيدة فرصة التجلي الحر لتكون بوحا أنثوياً لتجسيد تجربة عاطفية هي حال كل امرأة عاشقة. معادلة صعبة وتحتاج إلى خيال يرى من خلاله الشاعر ما لا يراه غيره، وخيال دلال يمتلك القدرة على توظيف البيئة والحدث العابر، الحكاية والأسطورة لتجسيد حالة عاطفية تتخللها نكهة التمرد والمزاجية الأنثوية، فمرة نراها توظف فعل كتابة القصيدة في رؤية شعرية لحالة عاطفية فتقول: “الملهمات نحن/نغرس أصابعنا بحبر الجنون/نكتب سيرة النبيذ والعاشقين/ونغفو بقلب القصيدة/سحرا وحمرا وخمرا وسنبلة”.
ومرة توظف الحكاية لرؤية شعرية فتقول: “سمعنا كثيراً عن الحب/عن مجانينه/حسناواته/كأن كل مخبول يمثلنا/أنا ليلى أنا لبنى/ وأنت قيس أحلامي”.
أما الحكاية القرآنية فلها توظيف متكرر في قصائد دلال، الغاية منه تجريد الحكاية من صفتها المقدسة وتقديمها كرؤية شعرية، تكتب الشاعرة “لم أكن يوما غرابا/ولا أحب قابيل كي أسديه معروفا/ هذه أجنحتي/لا يليق بها التراب/لذا سأجمعه/وأهديه للريح”.
العاطفة والفكرة
رغم أن دلال جويد أستاذة في الشعر الجاهلي وخبيرة بكل ما يمتاز به هذا النوع من الشعر من بلاغة ومعان وضوابط شعرية معروفة، فهي تكتب قصيدتها بأسلوب السهل الممتنع، مبتعدة بإرادة شعرية، لا بقصور لغوي، عن الإطناب والفذلكة اللغوية، كي تترك لخيالها الرومانسي قدرة الهيمنة على المزاج العام للقصيدة.
ليس هذا فحسب ولكنها تحاول أن تخلق توازناً بين الشحنة العاطفية في القصيدة وبين ما تطرحه من فكرة فلسفية، بحيث لا تندلق العاطفة وتهيمن على نشوة الغزل، ولا تتجرد الفكرة من عاطفتها لتكون صادمة متمنطقة لا مدهشة متجمّلة.
تقول الشاعرة “كن صيادا يا حبيبي/وأحضر للصغار ثمارا معك/تعال نركل الكهف/نعود إلى الشارع/ندلف إلى البيت/نشرب قهوتنا/نستقبل الأطفال/ونركل الحرية”.
الحبيب في قصائد دلال هو المُختار المُخير، إذا أقبل تعانق، وإذا أدبر تفارق، لأنها الحبيبة الراغبة، ولكن هي الأنثى المدجّجة بالكرامة. قصيدتها مقدامة لا تؤطر خصائصها الأنثوية بخجل أو تردد، ولا تخفي رغباتها العاطفية بلف ودوران اللغة الشعرية.
تبتعد جويد عن المثيرات اللغوية أو الصورية في قصيدة الغزل وتحذر من غمرها بالرغبات الجسدية لتحافظ على السمة الإنسانية فيها، فتقدم كتعبير لحالة وجدانية مشروعة، لا غرائزية ثائرة كما في قصائد الإيروتيك.
تقول: “لم تعد أنت ترسم الضياء بابتسامك/لم أعد أنا سوى عمياء/فالعمى كل العمى/ ألاّ أراك”.
في النهاية علينا أن نعترف بأن قصيدة الغزل الأنثوية عسيرة الولادة في المجتمعات الشرقية لأن شاعرتها مقيدة بوعي ذكوري يرى المنتج الأدبي اعترافات شخصية، ويطلق الأحكام عليها من خلاله، لذلك من الصعب تقديم إنتاج أنثوي بأسلوب يدعو إلى التمرد، ليس على التقاليد والعادات فقط بل والمقدس. ولكن عندما يجتمع الوعي بالموهبة يفرض الإبداع نفسه على التابوهات ليكون منجزاً متميزاً لصاحبته.
تكتب جويد “لست ابنتك أيتها الحياة/لذا سأكسر أغراضك/وأسرق حليك/وأسكب عطورك/سأكون لصة جشعة/لا أترك في خوابيك خمرا/إلا احتسيته”.