دفعة ثانية من وثائق مسربة تحرج لندن وتغضب واشنطن

يطرح نشر وسائل إعلام بريطانية لوثائق استخباراتية مسرّبة على دفعات أكثر من تساؤل بشأن الهدف غير المعلن لذلك، خاصة وأن توقيت تسريبها تباعا يتزامن مع اقتراب تصويت أعضاء حزب المحافظين على رئيسيهم الجديد، وبالتالي رئيس الحكومة الذي سيخلف تيريزا ماي المستقيلة. وتأتي التسريبات التي ستؤثر حتما على تعيين السفير البريطاني الجديد لدى واشنطن في يناير القادم بعد استقالة السفير الحالي كيم داروش، حيث يدعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيس حزب بريكست نايجل فاراج لتولي هذه الخطة.
لندن – أظهرت وثائق دبلوماسيّة مسرّبة أنّ سفير بريطانيا السابق لدى واشنطن كيم داروش يَعتقد أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحب من الصفقة النوويّة الموقّعة مع إيران لأنّها مرتبطة بسَلفه باراك أوباما، فيما أعلنت الشرطة البريطانية تحديد هوية مشتبه به في تسريب الوثائق وهو موظف مدني دون ذكر اسمه.
وكتب السفير البريطاني المستقيل كيم داروش في برقية دبلوماسية تعود إلى مايو 2018 أنّ الإدارة الأميركية راهنت على عمل يندرج في إطار “التخريب الدبلوماسي”، وذلك “على ما يبدو لأسباب أيديولوجية وشخصية لأنّها كانت صفقة أوباما”.
وهذه البرقية جزء من دفعة ثانية من التقارير السرية المسرّبة التي نشرتها صحيفة ذا ميل أون صنداي، فيما كانت برقيّة أولى قد سُرّبت ودفعت داروش الأربعاء الماضي إلى الاستقالة.
وكان وزير الخارجيّة البريطاني آنذاك بوريس جونسون قد توجّه في مايو 2018 إلى واشنطن لمحاولة إقناع ترامب بعدم التخلّي عن الصفقة النوويّة مع إيران. وفي برقيّة تمّ إرسالها عقبَ ذلك، أشار داروش إلى وجود انقسامات في فريق ترامب بشأن القرار الواجب اتخاذه.
ووجّه داروش الانتقاد إلى البيت الأبيض بسبب عدم امتلاكه استراتيجية طويلة الأمد، وكتب “لا يُمكنهم صوغ أيّ استراتيجية لليوم التالي والاتّصالات مع وزارة الخارجيّة هذا الصباح لا تقترح أيّ خطّة لمدّ اليد إلى الشركاء والحلفاء، سواء في أوروبا أو في المنطقة”.
وأشار أيضًا إلى أنّ وزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو أقدم خلال محادثاته مع بوريس جونسون على “النّأي بنفسه” عن الموضوع “بطريقة حاذقة وتحدّثَ عن قرار اتّخذه الرئيس”.
واستنادًا إلى داروش فإنّ بومبيو لمّح إلى أنهُ حاول، بلا جدوى، أن “يُسوّق” أمام ترامب لنصّ تمّت مراجعته.
وفي العام 2015، وقّعت الولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا صفقة نووية مع إيران للحد من برنامجها النووي، في مقابل رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على طهرا،. لكنّ ترامب ينتقد هذه الاتفاقية منذ فترة طويلة، وقد سحب الولايات المتحدة منها في 8 مايو 2018
وكان داروش قد وصف في مذكرات نُشرت السبت الماضي الرئيس الأميركي بأنه “مختلّ” و” غير كفؤ”، موجّهًا انتقادات حادّة لأداء الإدارة الأميركية.
وأثارت التسريبات غضب الرئيس الأميركي الذي أكّد الاثنين أنّ الولايات المتحدة “لن تجري بعد الآن” اتصالات مع داروش، واصفا الدبلوماسي البريطاني بأنه “غبيّ جدًا”، كما طالت انتقادات ترامب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التي كانت قد سارعت الى التعبير عن دعمها لسفيرها.
وأعلنت الشرطة البريطانية الجمعة أنها فتحت تحقيقا جنائيا حول تسريب المذكرات الدبلوماسية. وقال مساعد قائد الشرطة البريطانية نيل باسو في بيان ان “وحدة مكافحة الإرهاب بشرطة لندن، والتي تضطلع بالمسؤولية الوطنية المتمثلة بالتحقيق في مزاعم المخالفات الجنائية لقانون الأسرار الرسمية، قد فتحت تحقيقا جنائيا”.
وذكرت صحيفة صنداي تايمز من جهتها، أنّ تحقيقًا حكوميا حول عمليّات التّسريب تلك، قد حدّدت موظّفًا مدنيًا باعتبار أنّه هو الشخص المسؤول.
واتُهمت الشرطة البريطانيّة بتهديد حرّية الصحافة السبت، بعدَ إصدارها تحذيرا إلى وسائل الإعلام التي قد تُقدم على نشر وثائق سرّية.
وانتقد سياسيون بريطانيون، بينهم المرشحان لقيادة حزب المحافظين بوريس جونسون وجيريمي هنت، الشرطة بشدة ودافعوا عن حرية الصحافة في نشر أي برقيات دبلوماسية مسربة تصب في المصلحة العامة.
ورأى جونسون المرشح الأوفر حظاً لخلافة ماي على رأس حزب المحافظين أن ملاحقة وسائل الإعلام يمكن أن يكون له “تأثير مخيف على النقاش العام”.
وقال “ليس من المعقول أن يكون من الصواب أن تواجه الصحف أو غيرها من المنظمات الإعلامية التي تنشر مثل هذه المواد، محاكمة”، مشيرا إلى أنه في حين أن البرقيات المسربة مصدر إحراج فهي لا تشكل تهديدا على الأمن القومي البريطاني.
وأكد وزير الخارجية جيريمي هنت الذي يتنافس على زعامة حزب المحافظين، في تغريدة إن الشرطة محقة في إطلاق تحقيق للوصول إلى الشخص الذي سرب البرقيات، لكنه أضاف “أدافع لأقصى حد عن حق الإعلام في نشر هذه التسريبات في حال حصلوا عليها ورأوا أنها في مصلحة الجمهور العام وهذه هي وظيفتهم”.
وعمقت استقالة السفير البريطاني لدى الولايات المتحدة هوة الخلافات بين الحليفين التقليديين والتي تفاقمت مع وصول دونالد ترامب الى السلطة في 2016. وتأتي فضيحة تسريب تقارير دبلوماسية وصف فيها السفير البريطاني الرئيس الأميركي بغير الكفء في وقت تخوض فيه لندن معركة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وتأمل في بناء علاقة تجارية مع أكبر اقتصاديات العالم. ولم يخف الكثير من المراقبين أن يكون أعضاء حزب المحافظين المتنافسون على رئاسة الوزراء وراء تسريب هذه الوثائق الاستخباراتية.
وتشكّل هذه التطورات مشكلة جديدة للسياسيين البريطانيين خلال مرحلة مضطربة يتحتم عليهم فيها أن يقرروا كيف ستغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر المقبل.
وتقول إحدى النظريات التي تلقى قبولا إنّ التسريب لم يكن يستهدف داروش بل الشخص الذي سيخلفه في يناير المقبل، في وقت أشار فيه الرئيس الأميركي إلى رئيس حزب بريكست الجديد البريطاني نايجل فاراج.
والتقى فاراج ترامب في عدة مناسبات وقد رسّخ موقفه المعادي للاتحاد الأوروبي عبر قيادة حزبه الجديد “نيو بريكست” لتحقيق انتصار في الانتخابات الأوروبية في مايو الماضي.
واعتبر فاراج تسريب مذكرات داروش عملا “غير مسؤول للغاية”، لكنّه سعى للتقليل من شأن أي اهتمام محتمل له بشغل منصب سفير بلاده في واشنطن.
وأكّد “أنا لست دبلوماسيا”، لكنّه أضاف أنه “قد يكون مفيدا للغاية” تأسيس علاقة أفضل “مع إدارة لي بها أصدقاء”.
والمرشح الأكبر للمنصب مارك سيدويل يتبنى آراء مؤيدة للاتحاد الأوروبي ويعتبر أقل حماسة لبريكست من جونسون أو بعض أعضاء فريقه. ويقول أنصار هذه النظرية إنّ الهدف من التسريب ضمان أنّ يختار جونسون، المرشح الأوفر حظا للمنصب، مرشحا آخر ليحل محل داروش، لكنّ التسريب أضرّ بمكانة بريطانيا الخارجية.
وأعرب دبلوماسيون بريطانيون عن قلقهم من أنّ يؤدي نشر ما وصفته الحكومة البريطانية بتقييمات داروش “الصريحة وغير المزيّنة” إلى إحجام الدبلوماسيين الآخرين عن إرسال هكذا برقيات صريحة ومماثلة.
وكتب السير بيتر ريكتس المساعد السابق لوزير الخارجية البريطانية في صحيفة الغارديان أنّ “الضرر سيكون في احتمال تردد الدبلوماسيين لاحقا في تقديم آرائهم الصريحة للوزراء”.
وتضع الفضيحة المزيد من الضغوط على كاهل جونسون، رئيس الوزراء المفترض، إما للرضوخ أمام ضغط ترامب وإما التمسك بسفير بلاده في واشنطن.