"دفاتر مكشوفة".. معرض يكشف أسرار الإبداع برسومات أولية وأفكار لم تكتمل بعد

المعرض يشكل نافذة استثنائية تسلط الضوء على مخزون الإبداع المتألق لدى 21 فنانًا وفنانة من شتى جهات المغرب.
الأربعاء 2025/01/08
المسودات مرايا لعوالم الفنانين الداخلية

الرباط - في عمق التجربة الإبداعية، يقدّم الفن بوصفه حالة ولادة دائمة، مساحة تتقاطع فيها الحواس مع الفكر، وتصبح فيها اليد مرآة للروح. الفن، في جوهره، ليس مجرد أثر بصري يُعرض على الجدران، بل هو حوار متواصل بين الذات والآخر، بين الداخل والخارج، وبين الملموس والمتخيل.

ضمن مساحات فضاء يعبر عن روح الفنون وعوالمها المتعددة، يستضيف الرواق الفني لمؤسسة محمد السادس بالرباط معرض “دفاتر مكشوفة”، الذي يشكل نافذة استثنائية تسلط الضوء على مخزون الإبداع المتألق لدى 21 فنانًا وفنانة من شتى جهات المغرب. هؤلاء الفنانون، ومعظمهم مرتبطون بحقل التربية والتكوين، ينسجون عبر هذا المعرض تجربة فريدة تتجاوز حدود العرض التقليدي، لتغوص في العمق الحميمي للعمليات الإبداعية.

f

وفي هذا المعرض المكشوف بأياد متعددة، تتعرى العملية الإبداعية من أسرارها المعتادة، لتقدم للجمهور رحلة مغايرة، حيث لا يكون الإبداع لحظة مكتملة، بل حركة مستمرة، ترافقها محاولات، شكوك، واكتشافات. تلك الدفاتر المليئة بـ”الشخبطة” الأولى، بالأفكار الخام التي تبحث عن شكلها النهائي، تتحول إلى قصيدة صامتة تخبرنا عن عبقرية المخفي وبلاغة التمهيد.

هذا الانكشاف ليس مجرد استعراض، بل هو دعوة للتأمل في هشاشة الفنان وقوته، في تردده وإصراره، وفي حواره الداخلي مع المادة واللون والفكرة. في كل صفحة من دفاترهم، يعيد الفنانون تعريف حدود الممكن، مستكشفين أفقًا جديدًا، حيث لا تنتهي الأسئلة ولا تكتمل الإجابات.

في قلب المعرض، تتجلى “دفاتر الفنانين” بوصفها كنوزا فنية مخفية عن أعين الجمهور. هذه الدفاتر، التي تختزل رسومات أولية، أفكارًا خامًا، وملاحظات متفرقة، تروي قصة الإبداع من بداياته العفوية إلى اكتماله الفني. إنها ليست مجرد أدوات تخطيط؛ بل هي مرايا لعوالم الفنانين الداخلية، تعكس صراعاتهم، أحلامهم، وتجاربهم الحسية.

إقامة فنية امتدت ليومين تحت شعار “حركية الفن: من التخطيط إلى الإنجاز” منحت هؤلاء الفنانين فرصة التعبير المباشر أمام جمهور متنوع. هنا، لم يكن الفن مجرد نتيجة مكتملة تُعرض على الجدران، بل عملية مستمرة ومرنة، تنبض بالحياة والاختبار والمخاطرة. لحظة الإبداع، تلك التي تظل غامضة وغير مرئية في كثير من الأحيان، تم تسليط الضوء عليها بجرأة في هذا الحدث. فقد تحولت قاعات العرض إلى مختبرات حية، حيث يمكن للجمهور أن يراقب الفنانين وهم ينقلون أفكارهم من الدفاتر إلى الواقع.

المعرض دعوة للتأمل في ديناميكية الإبداع وكيفية ولادة العمل الفني كاشفا هشاشة الفنان وقوته

تمثل “دفاتر مكشوفة” أكثر من مجرد معرض تقليدي، إنه دعوة للتأمل في ديناميكية الإبداع وكيفية ولادة العمل الفني في عقول الفنانين. هذه الدفاتر، التي تشكل خريطة أفكار الفنان وأحلامه، تحمل معها قدرة فريدة على الكشف عن الأبعاد الإنسانية والإبداعية للفنانين. إنها تتحدث عن تردداتهم، اكتشافاتهم، وإصرارهم على تحدي حدود المألوف.

ما يجعل هذا المعرض استثنائيًا ليس فقط جودة الأعمال المعروضة، بل أيضًا الحوار الذي يخلقه بين الجمهور والفنان. تلك العلاقة التفاعلية التي تُمكن المتلقي من فهم ما وراء الكواليس، تجعل الفن أكثر قربًا وإنسانية.

إن مشاهدة رسومات أولية وأفكار لم تكتمل بعد، تشعر الجمهور وكأنه شريك في العملية الإبداعية، متذوقًا للرحلة قبل أن يصل إلى الوجهة النهائية.

الفنانون المشاركون، القادمون من خلفيات وتجارب متعددة، يقدمون رؤى متنوعة ومقاربات جريئة. من خلال استكشاف سيرهم الذاتية وأعمالهم السابقة، نجد أن كل واحد منهم يحمل توقيعًا خاصًا، يميز رؤيته للعالم والألوان.

يمثل هذا المعرض بداية البرنامج الفني لسنة 2025 في مؤسسة محمد السادس، مما يجعله افتتاحية ذات رمزية كبيرة. إنه يثبت مرة أخرى أن الفن ليس مجرد ترفيه أو عرض بصري؛ بل هو تجربة ثقافية، حوار إنساني، ووسيلة لاكتشاف الذات والآخر. “دفاتر مكشوفة” هو إعلان صريح بأن الفن المغربي قادر على تحدي الزمن والحدود، وأنه لا يزال ينبض بروح التجديد والابتكار.

13