دعم الصدر من مستحيل السياسة إلى ممكنها

جل السياسة في العالم العربي “مواقف”. وهو وصف لا يعبر بدقة عن الطبيعة الحقيقية للسياسة. ما هو سائد بيننا، هو أنها جوامد أو ثوابت، وما إلى ذلك. وهذه قد تصلح في العمليات الحسابية أو التخطيط الهندسي الذي يعتمد على قيم رقمية ثابتة، إلا أنها لا تصلح للسياسة. السياسة، على وجهها الأفضل، هي ما يتحرك من المواقف وليس تلك المواقف نفسها. إنها ما يتغير بتغير الظروف والإمكانيات والمواقع.
هناك حاجة قطعا لاستراتيجيات تعرف ما تريد. ولكن الوصول إليها يتطلب سياسة. وهذه ليست خطّا مستقيما. الخط المستقيم يفيد في الرسم الهندسي، إلا أنه لا يفيد في السياسة. وبما أن الواقع متعرج بطبيعته، فإن السياسة ملزمة أن تتعرج معه، وإلا فإنها سوف تخبط رأسها بالحائط مع كل منعطف.
“المواقف”، المبدئية منها خاصة، تجعل الممكن مستحيلا، بينما وظيفة السياسة هي أن تجعل المستحيل ممكنا.
ربما تستطيع الأحزاب العراقية التي قاطعت الانتخابات في أكتوبر الماضي، أن تكتشف الآن أن المقاطعة كانت خطأ، لأنها أفقدت نفسها الفرصة لكي تشارك في صنع أو تغيير الموازين. وهو خطأ كان له ما يبرره أيضا، بسبب من الاعتقاد بأن السلاح والمال السياسي والتزوير سوف تؤدي إلى إعادة إنتاج برلمان تهيمن عليه الميليشيات ويتقاسم حصصه اللصوص، وتستولي أحزابه على المغانم في الحكومة.
شيء من هذا حصل في الواقع. وإلا ما ظلت أحزاب التبعية والولاء لإيران تملك ما يقارب ربع البرلمان تلك التي ظل العراقيون يتظاهرون ضدها عاما كاملا، وهي التي قتلت المئات وجرحت عشرات الآلاف من المتظاهرين بوحشية لم يسبق للعراق أن عرف مثلها من قبل. إلا أنه لم يكن كل الواقع.
ولقد صار بوسع الناظر أن يقول “حصل خير”. ما سيأتي أكثر مما فات.
يقول جلال الدين الرومي “عندما تقرر أن تبدأ الرحلة، سيبدأ الطريق”. أما إذا بقيت جالسا على دكة “المواقف الثابتة”، فلا الرحلة ستبدأ، ولن يظهر الطريق
و”حصل خير” من ناحيتين على الأقل. الأولى، لأن أحزاب المقاطعة لو دخلت “المعمعة” فلربما عاملتها على نحو يواصل الضرر. والثانية، لأن المقاطعة نفسها، أثمرت عن وضع جديد، ما كان منظورا ولا متوقعا.
هذا الوضع الجديد إنما قدم خلاصات جديدة أيضا، من أبرزها أن زعيم الكتلة الصدرية مقتدى الصدر صار يتبنى خطابا وطنيا يدعو إلى الإصلاح ومكافحة الفساد والدفاع عن سيادة واستقلال العراق. وهو خطاب وضعه على شقاق مع “الساف” الأسفل في “سبتيتنغ” الأحزاب التي هيمنت على المشهد السياسي في العراق.
جدير بالاعتبار حقا، أن الثقة بالصدر محدودة. ولكن جدير بالاعتبار أيضا أن هذا الخطاب يضعه على شقاق مع ذلك “الساف”. وهو نفسه الخطاب الذي ظلت الأحزاب الوطنية تدافع عنه. ومن المؤسف أنه عندما جاءت الفرصة لتأكيده وتحصينه، فإن هذه الأحزاب، بما فيها تكتلات المستقلين، تتردد في تبني المقاربة المناسبة حياله.
هذه التكتلات، عدديا على الأقل، تمتلك في البرلمان أكثر مما يمتلكه كل طرف من طرفي النزاع “الشيعي – الشيعي”، إلا أنها ممزقة وتستجرها أهواء متفاوتة، و”مواقف” ثابتة.
محاولات الصدر لتشكيل حكومة جديدة على أساس هذا الخطاب تقع تحت ضغوط شديدة. وهو يتعرض لأعمال ابتزاز صريحة لكي يتخلى عن عزمه على تشكيل ما يسميه “حكومة أغلبية وطنية” تستبعد حزب إيران أو بعضه على الأقل.
حُسنُ السياسة يمكنه أن يجعل الصدر في موقف أقوى لمواجهة ضغوط إيران وتهديدات ميليشياتها. حُسنُ السياسة أيضا يمكن أن يقدم له الدعم لبناء كتلة برلمانية أكبر، قائمة على رعاية ذلك الخطاب ومشروطة به. كما أن من حُسنُ السياسة أن يقال له، إنه بينما يريد الآخرون منك حصصا ومناصب في وزارات، فنحن لا نريد إلا قيما ومبادئ وأخلاقيات في إدارة البلاد، ومنها التمسك بمكافحة الفساد وسيادة القانون وأن تفعل ما تقول، وألا تُخدعنا بالانقلاب على أي وعد.
هذا تدبير من تدابير السياسة يمكنه أن يؤسس لشيء أبعد في المستقبل. وبدلا من الدوران في حلقة مفرغة، فإن تقدما بمقدار متر أو مترين، وتوفير الضمانات للحؤول دون التراجع عنهما، يمكنه أن يعني الكثير بالنسبة إلى المراحل الانتخابية التالية.
لقد “حصل خير” فعلا بأن صخرة المشروع الميليشياوي التي جثمت على صدور العراقيين قد تزحزحت. لم تزل باقية في ثقلها الأعظم، إلا أنها تزحزحت، وتهشمت بعض أطرافها، وصارت تبحث عن أدوات في اللجوء إلى القضاء، مما كانت هي نفسها تستهين به أو تسخر منه.
حُسنُ السياسة يمكنه أن يجعل الصدر في موقف أقوى لمواجهة ضغوط إيران وتهديدات ميليشياتها. حُسنُ السياسة أيضا يمكن أن يقدم له الدعم لبناء كتلة برلمانية أكبر
ما حصل هو أن واحدا من أطراف هذا المشروع انقلب على طبيعته هو، ليتبنى مشروعا لبناء دولة، بدلا من دولة العصابات التي حكمت العراق على امتداد 18 عاما.
لا تهم الدوافع الشخصية التي ينطلق منها الصدر. ربما يريد الرجل أن يكون قائدا ذا مكانة تفوق مكانة كل الطغاة. إلا أن الإمساك به من “خنّاق” دعاواه الإصلاحية، يظل أمرا مفيدا.
ترسيخ قيم القانون، وسيادة الدولة ونزع سلاح الميليشيات ومحاربة الفساد، أمور يحسن النظر إليها على أنها قيود يمكنها تكبيل أرجل المخادعات. وبوسع المرء أن يفترض أنه حتى لو تحوّل الصدر الى ذلك “القائد التاريخي” الذي يحلم أن يكونه، فإن شيئا لا يبرر إحباط السمين من مشروعه الوطني بسبب ما قد يُعتقد أنه غثٌّ فيه.
إذا احترم الصدر تعهداته والقيم التي يقول إنه يتبناها، فلا شيء يمنع من دعمه بها، أو بعبارة أدق، دعمها من خلاله.
حتى الذين يعتبرون الصدر جزءا من مكونات المشروع الطائفي، يمكنهم دعمه بشروط مشروع الدولة الوطنية المستقلة، أو تكبيله بما يقول. وأنا أشير هنا إلى تجمعات النواب الوطنيين الذين اختاروا القول إنهم “معارضة، وسيظلون معارضة”.
السياسة لعبة شطرنج من أواسط الدست، حيث يرى اللاعب أوضاعا معقدة وأدوات وقطعا تمكنه من تحقيق مكاسب ولو جزئية. وإذا ما تمكن اللاعب من قراءة الرقعة على نحو يؤدي إلى تقوية المكاسب وتقليص الأضرار، فإنه قد يضمن الفوز في النهاية. يكسب اللاعب الدست كله أحيانا لأنه متقدم بخطوة بينما كل القطع متساوية أو حتى أقل مما قد يملكه الخصم. وما هو متناثر قد يمكن إعادة توليفه على أساس استراتيجية محددة تقصد شيئا وتضحي بآخر، ولكنها حالما تحقق الهدف، فإن كل ما تمت التضحية به سوف يعود ليحمل باقة النصر.
هناك جروح مع هذا الصدر، ولكن يمكن العض عليها.
السياسة ليست “مواقف” تنتظر مجيء الباص. إنها حركة دائمة. وهي مناورة على الواقع بالقليل مما تملك، وليست موقفا جامدا منه.
لا توجد ملائكة في العراق. واشتراط أن تمتنع عن تقديم الدعم حتى تأتي الملائكة سوف يعني أن تنتظر إلى يوم القيامة. بينما يمكن أن تتقدم خطوة بعد خطوة، لتصل إلى الهدف.
يقول جلال الدين الرومي “عندما تقرر أن تبدأ الرحلة، سيبدأ الطريق”. أما إذا بقيت جالسا على دكة “المواقف الثابتة”، فلا الرحلة ستبدأ، ولن يظهر الطريق.