دعم التنمية بخطط واقعية يعزز قدرات الاقتصاد المصري

قروض تلقتها القاهرة وجّهت لمشاريع تظهر آثارها على المدى الطويل.
الاثنين 2024/09/09
تقوية سوق العمل مُهمة لا تقل أهمية!

تؤشّر خطط مصر الرامية إلى التخلص من الدعم على أنها تريد نمطا معينا في معالجة الاقتصاد ضمن تنسيق مشروط مع صندوق النقد الدولي، لكن الحكومة لا تواجه ذلك بمشاريع تنموية وصناعية واقعية تدعم اعتماد البلاد على نفسها دون تبديد الموارد.

القاهرة - رسخت نتائج رفع الدعم في مصر، وما أسفرت عنه من أعباء مستمرة تتحملها الطبقات الأكثر احتياجا، إنتاج منظومة اقتصادية بلا خطة واضحة لمشاريع تنموية تحمي موارد الدولة وتعزز النمو.

وتواجه السلطات تحقيق المعادلة الصعبة ممثلة في كيفية التوفيق بين الإصلاحات المطلوبة من جانب صندوق النقد الدولي، والحفاظ على اقتصاد قوي ينتظره مستقبل واعد، وبين حجم الضغوط الحالية.

وتأتي الإجراءات الصعبة التي اتخذتها الحكومة، ومازالت تنتهجها، من تحرير سعر صرف الجنيه، ورفع الدعم عن غالبية السلع والخدمات، ضمن اتفاق مشروط مع صندوق النقد ووافقت عليه القاهرة.

وتلقت مصر قروضا سخية جراء ذلك، وآخرها استلام الشريحة الثالثة التي جرى صرفها مطلع أغسطس الماضي، بقيمة بلغت 820 مليون دولار. ومن هنا تدور تساؤلات بين الخبراء وأوساط المحللين بشأن توجيه هذه القروض إلى مشاريع تنموية كتعويض لتلك التضحيات.

ويتحقق ذلك بشكل نظري بسهولة، لكن لا تتضح آثاره ونتائجه العملية إلا بعد سنوات؛ إذ لا تظهر مردودات التنمية الناشئة عن تمويل مشاريع طويلة الأجل، مثل الطاقة أو البنية التحتية وغيرهما، بشكل فوري. وفي ضوء هذا المسار يظل المواطن المصري هو المتضرر الأكبر من تنفيذ تعليمات صندوق النقد بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية، وزيادة أسعار السلع والخدمات.

ورغم صعوبة القرارات التنموية على الناس، إلا أنها مرت بسلام رغم الامتعاض المكتوم من جانب شريحة من الأفراد، بدليل استمرار الأنشطة الاقتصادية وسعي المواطنين بمختلف فئاتهم للبحث عن مصالحهم وسد احتياجاتهم المعيشية.

وليست أمام القاهرة بدائل مسعفة، بخلاف الاتفاق مع الصندوق وتقبل شروطه التي تتسم بالصعوبة البالغة، حتى تنفتح البلاد أمام شركائها وتفسح المجال للاستثمار بأموال أضعاف ما تتلقاه من هذه المؤسسة الدولية المانحة، وفي مقدمة هؤلاء دول الخليج.

خالد الشافعي: جذب الاستثمارات الأجنبية الحل الأمثل لتسريع الإنتاج
خالد الشافعي: جذب الاستثمارات الأجنبية الحل الأمثل لتسريع الإنتاج

وساعدت عملية تشييد البنية التحتية في المدن الجديدة، وأيضا تخصيص جزء من هذه القروض للانتهاء منها، على تمكين القاهرة من جذب استثمارات خليجية عديدة، خاصة في قطاعي العقارات والسياحة.

والميزة من تعامل القاهرة مع الصندوق هي أنه سرّع عبور أزمة اقتصادية طاحنة ثم تدفق استثمارات الصناديق السيادية الخليجية، فضلا عن تحويل الودائع إلى استثمارات، ما خفف من وطأة الديون الخارجية.

وتظهر بيانات البنك المركزي التي نشرها في يوليو الماضي أن الدين الخارجي للبلاد تراجع بنسبة 8.4 في المئة مع نهاية مايو الماضي، ليبلغ قرابة 153.8 مليار دولار وذلك مقارنة مع مستواه بنهاية عام 2023.

وإلى جانب ذلك كانت تلك الأموال سببا رئيسيا في إبرام صفقة رأس الحكمة بين مصر ودولة الإمارات، حيث دعّمت موقف القاهرة بشأن الاستقرار المستقبلي لسعر الصرف وتدفق العملة الأجنبية.

وقال الخبير الاقتصادي خالد الشافعي إنه “ليس أمام مصر من أجل دعم خطط التنمية وتسريع الإنتاج سوى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لكن لم تحدث طفرة من وراء تلك الاستثمارات حتى الوقت الراهن”.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن البلاد “مازالت تعتمد على الأموال الساخنة بشكل كبير في تمويل احتياجاتها، ولذلك سيظل سعر صرف الجنيه مرتفعا عند معدلاته الحالية لفترة طويلة، خوفا من هروب تلك الأموال”.

ويعد برنامج الصندوق وخطة مصر للتعامل معه حاليا، والتي نتجت عنها زيادة أسعار الكثير من السلع والخدمات، امتدادا لبدء برنامج 2016 الذي جرى تفعيله منذ أول تعويم للجنيه في العام نفسه.

ولم يعد رفع الدعم عن الكثير من السلع والخدمات بنسب متفاوتة من القرارات المفاجئة بعد التصريحات المتكررة لأعضاء الحكومة بشأن عدم جواز استمرار تحمل الدولة لهذه الأعباء المالية التي لا تتوافق مع برنامج الإصلاح، ومع ذلك يستقبلها المواطنون بقلق شديد.

وأشار الشافعي إلى أن آثار رفع الدعم الأخيرة لم تكن مثل نظيرتها في أول مرة، حيث تلقى المواطنون الصدمات مرات، وعلى السلطات إقرار زيادات أكبر في الرواتب خلال الفترة المقبلة، لتعدد قرارات رفع الدعم عن سلع كثيرة العام الجاري.

◙ 153.8 مليار دولار الدين الخارجي بنهاية مايو 2024 نزولا بنسبة 8.4 في المئة عن مستوياته في ختام سنة 2023

ويتوقع محللون أن تشهد الفترة المقبلة استقرارا نسبيا، غير أن الظروف الإقليمية المحيطة بالبلاد من صراعات ربما تظل عائقا أمام النهوض الاقتصادي؛ إذ أثرت على إيرادات قناة السويس، وتدفق بعض الاستثمارات الأجنبية.

ومن العوامل المهمة التي على مصر استغلالها للانطلاق اقتصاديا، زيادة الاحتياطي الأجنبي من النقد الأجنبي، التي تم رصدها مؤخرا، إذ يكفي لإتاحة السلع ووفرتها في الأسواق لنحو تسعة أشهر، وبالتالي إمكانية نجاح السيطرة على التضخم.

وفي خضم ذلك يبدو حتميا على السلطات أن تصارح الشعب بالأوضاع الاقتصادية، ولا تتخذ قرارات مفاجئة تبعث على التشاؤم، مثل رفع أسعار الوقود والمواصلات والكهرباء بشكل مفاجئ أو التستر عليها، لأنها تدور ضمن منظومة إعادة هيكلة متكاملة.

وتمر الدولة بنمو بطيء في التنمية، والقطاع الخاص ليس سببا في ذلك، لأنه يتأثر بالأوضاع الاقتصادية بشكل عام، وقد سعت السلطات منذ سنوات لتنشيط هذا القطاع عبر إطلاق وثيقة سياسة ملكية الدولة لزيادة نشاطه في الناتج المحلي الإجمالي. لكن كل المحاولات لم تتحقق في الواقع العملي بعد دخول البلاد في أزمة شح العملة الأجنبية، والتي كانت الأكبر في تاريخها.

وتكمن أهمية القطاع الخاص في أنه المحرك الأكبر لسوق العمل والنافذة الرئيسية للتشغيل، وحال تباطؤ الوظائف أو تراجع إنتاجية الفرد، يصعب توجيه اللوم للأفراد، لأن أغلب المصريين يبحثون عن الوظائف ولديهم القدرة على زيادة  الإنتاج. ومع ذلك تظل الظروف المحيطة بمضر ومسألة مكافحة تغير المناخ وعدم توافر عوامل الإنتاج هي المتحكم الرئيسي في ذلك.

وتواجه أغلب المصانع المحلية معضلة عدم التشغيل بالطاقة القصوى بسبب ارتفاع أسعار الخامات، وارتفاع نسب التضخم التي تتطلب زيادة أكبر في الأجور، والتي ربما تكون خارجة عن إطار العديد من الكيانات.

مجدي شرارة: رفع الدعم سوف يدعم وضع خطط اقتصادية أكثر فاعلية
مجدي شرارة: رفع الدعم سوف يدعم وضع خطط اقتصادية أكثر فاعلية

وتوقع أستاذ إدارة الأعمال المصري مجدي شرارة في تصريح لـ”العرب” أن يستمر رفع الدعم عن السلع والخدمات، لأنه من وجهة نظر الاقتصاد هو “إتاوة” غير مستحقة. وقال “كلما تراجع الدعم زادت فرص تحديد خطط اقتصادية تحافظ على موارد الدولة، وتشغيل أكبر للإنتاج وزيادة التشغيل”.

وطالب بعض المحللين برفع الدعم بشكل كامل مع توفير إعانات البطالة، وإلزام الدولة بالمزيد من إفساح المجال للقطاع الخاص، والحرص على زيادة التشغيل كي لا تتكبد أعباء مالية ممثلة في إعانات البطالة.

ويقوض الدعم ضبط الموازنة العامة للدولة، لكن الخطوة السلبية الكبيرة في هذا النظام هي أن السلطات سرّعت الخُطى لرفعه من أجل التحول إلى اقتصاد حر دفعة واحدة، ما يتنافى مع طبيعة الاقتصاد والسكان في بلد يعاني معظمه من ضعف الدخول والفقر.

وأوضح شرارة أن منح الدعم للأفراد ليس “بدعة” مصرية، بل هو ضرورة قصوى نادى بها علماء الاقتصاد على مر العصور، باعتباره جزءا أساسيا لدور الدولة في الاقتصاد وحماية الطبقات المهمشة.

ويعني رفع الدعم بشكل متسارع توفير فرص عمل لائقة بدخل مرتفع كي يستطيع الأفراد العيش في ظل أمواج متلاطمة من الغلاء، وهي خطة يجب أن تسعى السلطات إليها بتوفير خطط واقعية وتحفيز القطاع الخاص وجذب الاستثمار الأجنبي.

وأكد شرارة أن مصر في سبيلها إلى رفع الدعم بتطبيق برامج حماية للمهمشين، مثل برنامج “تكافل وكرامة”، مع زيادات على فترات برفع رواتب العاملين في القطاع الحكومي، لكنها لا تتماشى مع الارتفاعات المتتالية في الأسعار. وقال إن “تلك الخطوة يقيدها صندوق النقد، ولا يرغب في توسعتها كثيرا كي لا يتفاقم عجز الموازنة، ويفقد رفع الدعم ثماره المرجوة”.

11