درية شرف الدين مذيعة ووزيرة سابقة تتولى إعادة الثقة بالإعلام من البرلمان

الإعلامية والبرلمانية تؤمن بالحريات وتبحث عن مصر طه حسين وأم كلثوم.
الثلاثاء 2021/02/23
نموذج إعلامي صاعد

“الصمت موت” كما يقول الأديب الجزائري الراحل الطاهر جاووت، و”الصمت ليس سياسة” كما كان يكرّر الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل. فليس للسكون نتيجة سوى اللاشيء؛ أن تخرس الألسنة فذلك لا يحل مشكلة ولا يمنع أكذوبة ولا يُنهي شائعة.

وأن تسكت فإنك بذلك تفتح الباب لمحترفي التأثير الخطابي للعمل والتمدد والذيوع. ألا تنطق فأنت بذلك تمنح ميكرفونات الظلام المتأسلم فرصة للزعيق والانتشار، وأن تتوارى عن القول وتتجنب الإطلال وتتحاشى الحوار فأنت أشبه بمن يفر من ساحة المعركة ويتخلى عن المسؤولية ويتجاهل الدور المفترض أن يقوم به.

كان ذلك ديدن الإعلام الرسمي المصري مُنذ خُلعت جماعة الإخوان المسلمين عن حكم مصر في يونيو 2013، لكن للأسف ظل تسيير المنظومة وفق تصور غير علمي يرى الصمت استسهالا ليبقى الأمر مقبولا ومعتمدا لسنوات حتى فقد الناس -العامة تحديدا- الثقة تماما في الإعلام، واضطرت الحكومة المصرية إلى إعادة وزارة الدولة للإعلام، ثم جربت محاولات جديدة لإرجاع تعددية الآراء والسماح باختلاف وجهات النظر في الفضائيات المملوكة لها مرة أخرى.

لكن الرقابة الذاتية السائدة في معظم المؤسسات هي الحاكمة، ما استدعى تغييرات وتحركات واسعة تستهدف استعادة الثقة مرة أخرى من خلال شخصيات لها شعبيتها وتقديرها وحضورها الثقافي في الشارع، وكان من إرهاصات ذلك اختيار درية شرف الدين رئيسة للجنة الإعلام والثقافة في مجلس النواب المصري.

ضيفة كل بيت

البرلمانية المخضرمة ترى أن الإعلام قادر على بناء الشخصية الوطنية الواعية والمستوعبة لما يحدث من تطورات، لأن العالم، كما تقول، صار قرية صغيرة جدا، والمُتلقي بات أذكى من أن يتم خداعه
البرلمانية المخضرمة ترى أن الإعلام قادر على بناء الشخصية الوطنية الواعية والمستوعبة لما يحدث من تطورات، لأن العالم، كما تقول، صار قرية صغيرة جدا، والمُتلقي بات أذكى من أن يتم خداعه

السيدة التي عرفها المصريون عقودا طويلة كمذيعة مثقفة وناقدة فنية وكاتبة وأكاديمية متخصصة في الفن، ثم مسؤولة عن الرقابة، ثم وزيرة إعلام في فترة صعبة للغاية، تمتلك محبة كافية وشعبية طاغية على كافة المستويات الاجتماعية تجعلها وجها مقبولا للعب دور حقيقي في تطوير وإصلاح منظومة الإعلام المصري في المرحلة القادمة.

لا خلاف على أن الإعلام لا يمكن تحميل أزمته لوزارة بعينها أو ربطها بشخص ما منفرد، فلا الوزير الحالي ولا رؤساء الهيئات الثلاث الخاصة بالإعلام وحدهم مسؤولين عن انهيار جدار الثقة الشعبية بين المواطنين والحكومة، والمسألة أعقد من ذلك بكثير، وتحتاج إلى رؤى تؤمن بجدوى وأهمية حرية الإعلام في الدولة المصرية خلال المرحلة الراهنة.

رصيد شرف الدين من الجماهيرية مصدره في الأصل نجاحها في الدخول لكل بيت قبل أكثر من أربعين عاما، عندما قدمت برنامجا ناجحا هو الأشهر على شاشة التلفزيون المصري، قبل عصر الفضائيات، وهو برنامج “نادي السينما” الذي مثّل أول إطلالة حقيقية مباشرة للمصريين على السينما العالمية عبر الشاشة الفضية.

يتذكر كاتب السطور وربما أبناء جيله كيف كانوا ينتظرون باشتياق شديد مساء كل سبت لمشاهدة فيلم أجنبي جديد، والاستماع لتعليق متميز ونقد واف من ناقد فني أو مثقف كبير تستضيفه مذيعة أنيقة هادئة لبقة، هي شرف الدين التي حصلت على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة، ما مكنها من أن تكون على دراية سياسية واسعة.

كانت المذيعة الشابة وقتها معروفة لدى معظم الأسر المتوسطة، وظلت وجها مقبولا واسمًا محبوبا على مدى عدة عقود، ما جعل تعيينها فيما بعد في عدة مناصب سياسية محل رضا وترحيب من الفئات الشعبية المختلفة. وحتى عندما تم اختيارها منذ حوالي شهر ونصف الشهر للتعيين في مجلس النواب الجديد كان ذلك أيضا محل تقدير كبير.

استقلال الراهبة

 تمثل شرف الدين نموذجا للإعلامي الصاعد إلى القمة اعتمادا على الكفاءة والمهنية والعمل الجاد والسعي الدائم للتفرد.

المنظومة الإعلامية المصرية تُسَيَّر وفق تصور غير علمي بقي معتمدا لسنوات، حتى فقد الناس الثقة تماما في الإعلام، واضطرت الحكومة المصرية إلى إعادة وزارة الدولة للإعلام، ثم جربت محاولات جديدة لإرجاع تعددية الآراء والسماح باختلاف وجهات النظر

ولدت الفتاة المنتمية إلى عائلة من الطبقة الوسطى العليا التي اهتمت بالتعليم في مدينة دمياط شمال القاهرة في شهر مايو 1948، ودرست في إحدى مدارس الراهبات هناك، ثم انتقلت مع أسرتها إلى مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية شمال القاهرة، والمعروفة باحتضانها لطبقة مثقفين ومبدعين متنوعي المآرب، ثم التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وظلت حريصة على عدم الانتماء إلى أي حزب أو تيار سياسي حتى تخرجت في الجامعة لتعمل بالإذاعة المصرية عام 1971 بناء على إعلان يطلب مذيعات جديدات لديهن تميز صوتي وقدرة على الترجمة.

ودفع ذلك الشاعر الراحل فاروق شوشة -وكان يتولى حينئذ مهمة اختبار المذيعات- إلى إخبارها بأنها متميزة في كل المهارات عدا اللغة العربية، وأمهلها يوما واحدا للتكيف مع النطق الصحيح، وبالفعل قضت المذيعة الجديدة اليوم كله في التدريب على النطق وتكرار الحديث باللغة العربية حتى شعرت بتملكها نواصي الحديث، وهو ما أهّلها في اليوم التالي للنجاح بتميز.وقتها تأثرت بموقف صعب ترك بصمته الدامغة في نفسها، ودفعها دفعا إلى اعتبار التعليم والتدريب الدائم ضرورة حياتية لا تقبل تهاونا أو تأجيلا، ففي اختبارات القبول بالوظيفة نجحت في كافة الاختبارات وبدت متميزة فيها، لكنها لم تكن بالتميز ذاته في نطق اللغة العربية.

لم تمر سنوات قليلة على تألقها في الإذاعة حتى تقدمت لإعلان في التلفزيون يطلب قُراء نشرة أخبار، واختُبرت ونجحت على الفور، وحازت ثقة وإعجاب كبار المذيعين.

الحاجة إلى عقل نقدي

شرف الدين يعرفها المصريون منذ عقود طويلة كإعلامية مثقفة، وناقدة فنية، وكاتبة، ثم كمسؤولة عن الرقابة ووزيرة إعلام، وهي مواصفات تجعلها وجها مقبولا للعب دور حقيقي في تطوير وإصلاح الإعلام المصري في المرحلة القادمة
شرف الدين يعرفها المصريون منذ عقود طويلة كإعلامية مثقفة، وناقدة فنية، وكاتبة، ثم كمسؤولة عن الرقابة ووزيرة إعلام، وهي مواصفات تجعلها وجها مقبولا للعب دور حقيقي في تطوير وإصلاح الإعلام المصري في المرحلة القادمة

بدأت خلال عملها دراسة النقد الفني بأكاديمية الفنون في القاهرة، لذا رُشحت سريعا لتقديم برنامج عن السينما الأجنبية كان من أفكار الناقد شريف رزق الله وحمل عنوان “نادي السينما”، وكان ذلك البرنامج بداية طريق المذيعة الشابة نحو قلوب الملايين. وبالفعل نجحت شرف الدين في ترسيخ حضورها التلفزيوني وصنع جماهيريتها الواسعة بعد أن طورت الفكرة لتستضيف نقادا لتحليل الفيلم وتقييم الأداء، ثُم تستعين بمدراء تصوير وموسيقيين ومصممي ملابس وديكور وأساتذة تاريخ، ليتحدث كل منهم في تخصصه.

شكّل هذا الأسلوب سمة أكثر تميزا لمتابعة سينما هوليوود، وأسهم في توسيع مدارك المشاهدين، ومنحهم القدرة على استقراء الفن واستيعاب اِتجاهات السينما العالمية الحديثة، لذا لم يكن غريبا أن تنتاب الجمهور حالة من الغضب الشديد عند توقف البرنامج بعد أكثر من عشرين عاما، ما دفعها إلى القيام بتقديمه مرة أخرى على شاشة فضائية “دريم” الخاصة.

جاء الاحتكاك الأول للمذيعة بالعمل التنفيذي السياسي عندما اختيرت عام 1995 مديرة للرقابة على المصنفات الفنية، لكن لم يطل بها الحال أكثر من عام واحد نظرا لما اعتبرته تدخلا مباشرا في عملها، ومحاولة التدخل في قبول أو رفض مشاهد وأعمال فنية، وهو ما اشتمت معه شبهة فساد، فسارعت إلى تقديم استقالتها.

عملت بعد ذلك وكيلا لوزارة الإعلام المصرية، وتولت الإشراف على القنوات المتخصصة، إلى جانب عملها الأكاديمي ونشرها عددا من المؤلفات المهمة مثل كتاب “السياسة والسينما في مصر” وكتاب “رحلة في عقل البابا شنودة”.

البعض يعتقد أن استدعاء شرف الدين من خلال العمل البرلماني هو مراجعة لتطوير سياسات الإعلام، ما يسمح بتوسيع مساحة الحرية والتعبير عن الرأي، وإحياء تجربة التعددية الإعلامية

ظل اسمها متكررا للطرح عند كل تعديل وزاري باعتبارها إعلامية ومثقفة وكاتبة رأي، ولها مقالات فنية متميزة في معظم الصحف، حتى تم اختيارها في يوليو 2013 وزيرة للإعلام في حكومة حازم الببلاوي، عقب سقوط حكم الإخوان بعد انتفاضة 30 يونيو من العام نفسه، وظلت تُدير الملف الأصعب بوعي وحكمة واتزان لحين اِنتهاء المرحلة الانتقالية بكل ما شهدته من أحداث وحروب إعلامية شرسة ضد الدولة المصرية.

يعتقد البعض أن استدعاء شرف الدين من خلال العمل البرلماني هو مراجعة وفرصة لتطوير سياسات الإعلام، ما يسمح بتوسيع مساحة الحرية والتعبير عن الرأي وإحياء تجربة التعددية الإعلامية.

ترى الإعلامية والبرلمانية أن الإعلام المصري قادر على بناء الشخصية الوطنية الواعية والمستوعبة لما يحدث في العالم من تطورات وتغيرات؛ فهي تؤمن بأن العالم صار قرية صغيرة جدا، وعلى أي مهتم بلعب دور وطني في مجال الإعلام مواكبة ما يحدث من تغيرات وتطورات، وأن يعي أن أفكار جوبلز -وزير الدعاية في عهد هتلر- لم تعد صالحة لشيء، وأن المُتلقي صار أذكى وأنبه من أن يتم خداعه.

وتشير رئيسة لجنة الإعلام والثقافة في البرلمان المصري، في تصريح بعد اختيارها لهذا المنصب، إلى أنه لا يمكن للإعلامي أن يقوم بدوره إلا إذا حصل على حقوقه الأساسية، والمتمثلة في إقرار قانون لتداول المعلومات، والعمل في ظل مجتمع مدني ووسط ديمقراطي، وشعوره بالأمان عند ممارسة عمله، ووجود جهة مستقلة يلجأ إليها الإعلامي عند حدوث أي خلافات، مع ضرورة حصوله على تدريب خاص للإلمام بالقوانين ومواد الدستور والاتفاقيات الدولية المعنية بالإعلام. كما تؤكد شرف الدين أن وسائل الإعلام التقليدية لم تعد وحدها على الساحة، بعد سطوع مواقع التواصل الاجتماعي، بل صار لها دور قوي في التوعية بقضايا حقوق الإنسان، فحرية الرأي لن تسبب ضررًا لأحد، وتسهم في خلق حالة من الوعي بالقضايا الوطنية.

صاحبة رأي

شرف الدين تمثل نموذجا للإعلامي الصاعد إلى القمة اعتمادا على الكفاءة والمهنية والعمل الجاد والسعي الدائم للتفرد

شرف الدين تؤمن بالحرية المطلقة، وتنشر مقالا أسبوعيا في صحيفة “المصري اليوم” المستقلة، تتناول فيه ظواهر ثقافية وفنية واجتماعية وهموما حياتية لدى المجتمع دون حسابات أو حواجز سياسية.

من بين مقالاتها الأخيرة مقالة عن التحرش الجنسي في مصر، وكيف صارت هذه الظاهرة محل وجع وطني. وقد روت مشاهدات أناس تعرضوا لمشكلات تنم عن انحدار اجتماعي غير مسبوق.

ومنها أيضا مقال يحمل تفسيرا للتوجه الدعائي لنظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عندما حول متحف آيا صوفيا إلى مسجد كنوع من التوظيف الشعبوي للعاطفة الدينية، أوضحت فيه حكاية القديسة صوفيا وكيفية انتقال رفاتها إلى إسطنبول، قبل أن تصف موقف أردوغان بأنه عمل استفزازي لا يليق برجل دولة، عليه أن يزن قراراته وسياساته بميزان الحكمة والعدل، في زمن أصيبت فيه سمعة المسلمين في العالم جراء إرهاب داعش وانتهازية التيارات الدينية.

تتساءل شرف الدين في مقالاتها عن مصر الأخرى التي اختفت، مصر التي كان يمثلها طه حسين وفاتن حمامة وأم كلثوم. وترى الصحافة وسيلة لصناعة الرقي والدعوة إلى التسامح والتحضّر واحترام الآخر، فهي مهمة حضارية تبقى لازمة لأي أمة لتنهض وتتقدم.

13